المولى المصلح والعبد الصالح
الميرزا حسن الحائري الإحقاقي أعلى الله مقامه
بقلم خادم الشريعة الغراء الميرزا عبد الرسول الحائري أعلى الله مقامه
نسبه:
إنّ الوالد الماجد ، الأستاذ المكرّم ، العبد الصالح ، الإمام المصلح ، جامع العلوم والفنون ، حاوي الفروع والأصول ، نادرة الأيّام ، نابغة الزمان ، المرجع الديني الكبير ، المصلح الأخلاقي العظيم ، سماحة آية الله العظمى ، مولانا الحاج ميرزا حسن الاحقاقي الحائري الأسكوئي (روحي فداه) هو الابن الثالث لسماحة آية الله المعظّم الحاج ميرزا موسى آقا الحائري الاحقاقي (قدّس سرّه الشّريف ، وهو من دون مبالغة ، وبشهادة أهل البصيرة والخبرة من العلماء الأعلام في مختلف المناطق العربية والأعجمية الذين التقوا به ، وتشرّفوا بفيض حديثه ، وشاهدوا عن قرب آثاره العلمية ، وخدماته الجليلة والعظيمة ، الدينية منها والاجتماعية ، الذين صّرحوا بأنه شخصية قلّ نظيره ، ونابغة عبقري ، وهو من جميع أبعاد العلوم ، والأعمال الخيرية ، والأخلاق الفاضلة ، وسعة الصدر ، وحسن السيرة ، وفي جميع الجوانب والصفات الأخلاقية من الشجاعة ، والشهامة ، والسخاء ، والعبادة ، والزهد ، والتقوى ، وسلامة النفس ، وصحة الجسم ، وحتى بالنسبة إلى انجذابه الروحي ، ومحبوبية الهيئة والصور ، أنموذج ومثال متكامل ، وأسوة حسنة ، قلّ مثيله على صفحات التاريخ باستثناء المعصومين وأولياء الله الصالحين (عليهم السلام) الذين لهم مقاماً رفيعاً فوق الإحاطة والإدراك البشري.
انّه في الحقيقة حضارة في رجل ، وأمة في شخص ، فهو حكيم الهي ، عارف متكلم ، فقيه متبحّر ، محدّث أمين ، خطيب بليغ ، متحدّث فصيح ، أديب أريب ، شاعر مجيد ، رياضي دقيق ، جواد كريم ، متواضع كبير ، بعيد الهمة ، ثاقب النظرة ، مدّبر بصير ، زاهد تقي ، محي الليل في العبادة ، مرشد حكيم ، زعيم محنّك ، مرجع مدرك.
إضافة إلى ذلك فله معرفة ببعض الفنون والصناعات ، كالفروسية ، والسباحة ، وإلمام بعض اللغات الأجنبية المتداولة ، والطب الشعبي ، وعلم النجوم والأعداد والحروف ، وغيرها بدرجة جيدة ، وقلبه الكبير مخزن من مخازن أسرار الولاية ، وأبرز صفاته الحميدة التي يجذب الانسان دون ارادته نحوه بأول لقاء معه ، هو توحيده لله وخشوعه الكامل امام معبوده الواحد الأحد ، اضافة إلى اخلاصه الكبير ، وولاءه الشديد والعميق للمعصومين الأربعة عشر محمد وآل محمد (عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام) . وجميع المنتسبين إلى ذلك البيت بيت الوحي والطهارة . وهو بحق مصداق واضح للآية الكريمة التي تقول] رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ[(النور:37).
ويمضي أكثر أوقاته في الليل بالعبادة بين ركوع وسجود وبكاء وتضّرع وخشوع لله (سبحانه وتعالى) ، وأما في النهار فقد أوقف وقته الثمين بالعمل لخدمة الدين والمؤمنين ، وبالأخص المحتاجين والمستضعفين ، ولنشر آثار ومناقب وفضائل سيد المرسلين الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين الطيبين الطاهرين (عليهم الصلوات من ربّ العالمين) .
وإذا فرغ من هذه التكاليف والمسؤوليات الدينية والاجتماعية الشاقّة ، فانّه يرطّب لسانه بذكر المعبود الواحد الأحد ، والأدعية المأثورة الواردة عن المعصومين (عليهم السلام).
ولسماحته (قدس سره) مؤلفات عديدة قيّمة في الدين والأخلاق والفقه والفلسفة ، وهي وإن كانت قليلة العدد والكمّية ، ولكنّها بالنظر إلى الكيفية مليئة وكثيرة بالمعاني ، وهي جامعة للعلوم والأسرار والأسس الدينية قلّ نظيرها ، وهي تبرز قدرته العجيبة في الفصاحة والبلاغة والحكمة والأخلاق ، وطبعت أغلبها مرات عديدة ، وهي اليوم موضع تقدير واحترام أهل العلم والفضل.
وهو القائم على إنشاء كثير من الآثار والأبنية والمؤسسات الخيرية والإسلامية من المساجد والحسينيات والمدارس العلمية ، والصّدقات الجارية ، وإطعام آلاف الفقراء وكسوتهم ، والمطبوعات الإسلامية ، والكتب الدينية ، في شرق وغرب الدول الإسلامية.
وإنني وان كنت مقصّراً وأرى قلمي عاجزاً أمام شرح فضائله العلمية ، ومكارم أخلاقه ، وأعماله الخيرية ، ومشاريعه الإنسانية من الناحيتين الكمية والكيفية ، فلا أستطيع القيام والوقوف أمام هذا الأمر المهم ، وتحرير الأقوال والأفعال بالقلم ، ولكن من باب (لا يسقط الميسور بالمعسور) . والتقرّب إلى الله (سبحانه وتعالى) . ثم التوسل بالمعصومين البررة (عليهم السلام) ، إضافة إلى إجابة وردّ طلبات الأصدقاء الأعزاء المتكررة فإني أرى أن الواجب الشرعي يحتّم عليّ الدخول والخوض في هذا الأمر الخطير ، ونقل جوانب مهمة وشذرات مختصرة من حياته وأعماله ومشاريعه ومؤسّساته لتكون درساً ومثالاً للذين يسيرون في طريق الحق والحقيقة ، ودليلاً واضحاً لطلاّب الحقيقة ، ومن الله التوفيق وعليه التّكلان.
وأشهد الله (تبارك وتعالى) أنني في كتابة مؤلّفاتي أضع نصب عينّي رضاه أولاً ، ولم ولن أحيد عن الطريق الوسط والاعتدال ، وعلى الأخص في كتابة هذا الكتاب الموجود بين يديك أيها القارئ الكريم ، باعتباره يتعلّق حول حياة وسيرة أسرتنا ، وأعوذ بالله من الخطأ والنسيان . وفي هذه الأسطر لم أقع تحت تأثير عواطف الأبوة والبنوة ، أو الإحساس العائلي ، وبالأخص الاحتراز من المبالغة في هذا الأثر أو غيرها من الآثار فأنقل كل مارأيت من خصائص هذا العَلم أو سمعت عنها وأدركت ، بكلّ استطاعتي وقدرتي ، لجميع أصدقاءه ومحبيه في كلّ حدب وصوب ، أعربا كانوا أم عجماّ ، وأرجو من العلي القدير قبول هذه الوجيزة ، انه سميع مجيب الدعاء.
ولادته الميمونة ونشأته العلمية:
ولِد الوالد الماجد (قدس سره) في : (2 (محرم) 1318 هــ) ، بمدينة كربلاء المقدسة من أم عفيفة ، مؤمنة ، صالحة ، عارفة ، قائمة الليل ، صائمة النهار ، الذاكرة لأسماء الله (سبحانه وتعالى) وأوليائه (عليهم السلام) ليلاً ونهاراً ، فرضع من لبان المحبة والولاية من ذلك الصدر الطاهر الصافي خادمة الزهراء (عليها السلام) ، فعجنت أعضاؤه الجسمية وعروقه وأوردته ولحمه وعظامه بخميرة محبّة أهل بيت النبوة والولاية ، وكانت نفسيته مخلوقة من فاضل طينة مواليه الكرام البررة ، ومن مصاديق قولهم (عليهم السلام) : (شيعتنا منا خلقوا من فاضل طينتنا وعجنوا بماء ولايتنا) الخ.
وفي صغره وأوان صباه كانت آثار الفهم والذكاء ، وعلامات النبوغ ، ودلائل المحبة والولاية لأهل بيت العصمة (عليهم السلام) بارزة وواضحة على ناصيته النّيرة ، بشكل جلب إليه أنظار والده الماجد الذي كان في ذلك الحين مرجعاً لشيعة آل محمد (عليهم السلام) ، وقد أشرف (أعلى الله مقامه) شخصياً على تربيته وتعليمه ، فجعله تحت رعايته الخاصة ، فما إن بلغ الرابعة من عمره حتى كان قد تعلم الأصول والفروع الأساسية للدين الإسلامي الشيعي الاثني عشري ، وأسس الأخلاق المحمدية المقدسة ، وولاية ومحبة أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين ، بأسلوب مميز من أمه العارفة ، فحواها بأسلوب التلقين في جسمه الشريف ، وأخذت تجري في وجوده الشريف كجريان الدم في الشرايين والأوردة ، فتعلقت روحه السامية ونالت التربية التكوينية في عالم الأنوار مستجيباً لنداء : ألست بربكم ؟ قائلاً : بلى . فتعلم علمه بشكلٍ مجمل .
وفي الخامسة من عمره عيّن والده المعظم أحد تلامذته وهو الشيخ ملا علي الخسروشاهي (فخر الإسلام) (رحمة الله عليه) العالِم العامل ، والزاهد العابد ، الذي بدأ بتعليمه القراءة وتجويد القرآن الكريم ، وتدريسه لمقدمات العلوم الدينية ، والمعارف الإسلامية ، وفرغ ذلك النابغة بعد أشهر من قراءة كلام الله المجيد ، ثم أتم عليه أيضاً مقدمات العلوم الأساسية من علم النحو والصرف ، والأدبين الفارسي والعربي ، وبعد ذلك أرسله والده الماجد لتحصيل المرحلة الثانية من دروسه في المقدمات في علم المعاني والبيان والبديع ، والمنطق والأصول وغيرها ، والتي تعتبر هذه العلوم أعمدة وأسس الفقاهة والاجتهاد ، إلى مدينة النجف الاشرف وحضر لدى شقيقه المعظم آية الله العظمى الميرزا علي آقا الاحقاقي الحائري ـ سالف الذكر ـ (أعلى الله مقامه) الذي كان في حينه يقطن تلك البلدة الطيبة وحوزتها العلمية العريقة ، وقام بتحصيل العلوم لدى العلماء الأعلام والمراجع المجتهدين العقلية منها والنقلية ، وقد انتهى (قدس سره الشريف) عند أخيه المعظم ، وسائر الأساتذة العظام في تلك المدينة الفاضلة ، موئل العلم والعلماء ، والمكان الأول لتأسيس الجامعة الدينية الكبرى ، مدينة باب علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وخازن أسراره ، مولى الموالي ، الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، المرحلة الثانية من مقدمات العلوم بامتياز كبير ، حيث أتمها في مدة قصيرة.
ولتحصيل دورة في السطوح العالية من الفقه والأصول وحكمة آل الرسول (سلام الله عليهم أجمعين) قصد راجعاً إلى كربلاء المقدسة ، حيث اشترك في الحلقة الدراسية لوالده الماجد وبمدة زمنية وجيزة جلب إليه أنظار والده ، نتيجة لنبوغه العلمي في فهم المطالب والبحوث واستنباط المعاني والبيان ، وقد رأى فيه قدرته واستطاعته على القيام بواجب التدريس ، إضافة إلى تقدير واحترام جميع فضلاء تلك الحوزة له . لذلك عندما كان يغيب والده عن وظيفته الدراسية كان يقوم (قدس سره) بالتدريس خير قيام.
أساتذته:
إضافة إلى ما ذكرنا أنه درس في البداية على أستاذه الشيخ ملا علي الخسروشاهي ، وعلى أخيه الميرزا علي آقا الإحقاقي (أعلى الله مقامه) فانه بعد الانتهاء واتمام دروسه في السطوح العالية وبحث الخارج في كربلاء المقدسة ، عاد مرة أخرى للنجف الأشرف ، وحضر فيها بحوث الخارج للأساتذة الكرام والمراجع العظام أمثال :
1. آية الله الشيخ فتح الله الغروي المعروف بــ(شيخ الشريعة الأصفهاني) (قدس سره).
2. آية الله النائيني (قدس سره).
3. آية الله السيد مصطفى الكاشاني (قدس سره). وغيرهم (أعلى الله مقامهم).
وقد أعطى له أساتذته ووالده الماجد وأخيه المعظم إجازات مفصّلة في الرواية والاجتهاد ، والكاشفة على أهليته وجدارته لإحراز مقام الفقاهة والزعامة والمرجعية في جميع أبعادها ، وكان عمره حينذاك اثنان وعشرين عاماً ، والحمد لله ربّ العالمين .
وكان حفظه الله إلى جانب تحصيله للعلوم الدينية والمعارف الإسلامية وحضوره في المحافل الفقهية والأصولية والحكمية ، يتعلم سائر العلوم المستغربة وغير الشائعة في ذلك العصر لدى العلماء والطلاب ، كتعلم اللغات الأجنبية ، وحضوره في المدرسة الجديدة ( حسيني إيراني ) والتي أسست قبل مائة واثنين وتسعين عاماً من تحرير هذه السطور في كربلاء بهمة المسلمين الإيرانيين الشيعة في تلك الديار المقدسة ، على الأسس الإسلامية الشيعية الاثني عشرية في مقابل المدارس العثمانية التي كانت فاقدة للأصول الإسلامية الشيعية ، فقد طلب حينها مؤسسو تلك المدرسة من العلماء الأعلام من سكنت كربلاء أن يرسلوا أبناءهم إليها ، مما يؤدي إلى اطمئنان وتشجيع بعض المتشددين ممن كانوا يحرمون الدخول في هذه المدارس الحديثة ، فاختار جدنا الأمجد والدي الماجد للدراسة في تلك المدرسة ، لما وجد فيه من استعداد ولياقة لهذا الأمر .
وهكذا اشترك والدي الماجد بأمر والده مع أولاد سائر علماء كربلاء في هذه المدرسة التي تعطي طلابها إضافة إلى التعاليم الدينية أرضية مناسبة من العلوم الجديدة . وقد فاق أقرانه لما له من نبوغ ذاتي واستعداد عالي ، فانتهى من هذا المعهد العلمي والثقافي بدرجة عالية جداً . وقد كان دوماً موضع اهتمام وتشجيع أساتذة تلك المدرسة ، حتى أنهم كانوا يفوضونه إلقاء الخطب والمحاضرات نيابة عن أولياء ومسؤولي المدرسة أمام العلماء والشخصيات وأمراء الأتراك والإيرانيين المقيمين في العراق ، وكذلك الضيوف والزوار الأجلاء الذين كانوا يذهبون إلى مدينة كربلاء المقدسة لزيارة الأئمة الأطهار عليهم السلام . وهذه المرحلة قد قضاها في أيام طفولته .
وفي السنوات الثلاثة التي استوطن فيها مدينة مشهد الرضا (عليه السلام) ومن باب (فذّكر) ، والتعرّف على أعلام وأساتذة تلك الحوزة المقدسة حضر في حلقات بحوث الخارج في الفقه والأصول عند كل من :
1. آية الله الفقيه السبزواري.
2. آية الله الشيخ أحمد كفائي ابن المرحوم العلامة المرجع الكبير الآخوند الخراساني.
وكان له (قدس سره) محادثات ومقابلات عديدة مع علماء عظام ومراجع كبار أمثال :
1. آية الله الشيخ أحمد الشاهرودي .
2. آية الله الشيخ محمد حسن الطوسي (أعلى الله مقامه .
3. آية الله الحاج السيد علي أكبر الخوئي .
4. وآية الله المعظم الحاج السيد أبو القاسم الخوئي الفقيه الراحل وزعيم الحوزة العلمية في النجف الأشرف .
إجازاته:
وكان للوالد (روحي فداه) إجازات عديدة من المراجع الأعلام في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة ، ولكن مع الأسف الشديد فقد ضاعت معظمها في طريق انتقالنا من مشهد الرضا (عليه السلام) إلى مدينة تبريز ، إضافة إلى ضياع أسناد ومدارك علمية قيّمة ، ولا أثر لها إلى اليوم .
ومع ذلك فإنّ آثاره العلمية وتأليفاته وتحقيقاته القيّمة في مختلف العلوم من الفقه والحكمة والأصول باللغتين الفارسية والعربية ، وخدماته وأعماله الباهرة تغنيه من أي شهادة أو وصف من أساتذته لأنه (إنّ آثارنا تدلّ علينا) ولكن من باب التبرك والتيمّن أنقل هنا اجازتين أحدهما لسماحة آية الله العظمى شيخ الشريعة الأصفهاني ، والأخرى لأخيه المعظم سماحة آية الله العظمى الحاج ميرزا علي آقا الاحقاقي الحائري (أعلى الله مقامهما).
النصّ الكامل لإجازة شيخ الفقهاء والمجتهدين
الشيخ فتح الله الأصفهاني المشهور بـ”شيخ الشريعة” (رضوان الله عليه)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق الإِنسان ، وعلَّمه البيان ، وسلك بهم سبل الهداية بأعلام الأدلة والبرهان ، وأرسل لهم رسلاً مبشّرين ومنذرين ، ليخرجهم من ظلمات الكفر إلى أنوار الإيمان.
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وسيد ولد عدنان محمد ، الذي بعثه علماً لعباده ، وناسخاً لجميع الشرائع والأديان ، وحجة بالغة قائمة على الإنس والجان ، وكافة العوالم والأكوان ، وعلى آله وأوصيائه الطاهرين المعصومين من كل خطأ ونسيان . (عليهم أفضل صلوات الملك المنان ، ولعنة الله على أعدائهم ومخالفيهم مصادر الفسوق والعصيان ، والشرور والطغيان) وبعد:
فلما كان جناب العالم الفاضل ، والكامل الباذل ، فخر العلماء العظام ، وذخر الفضلاء الأعلام ، مروج الأحكام ، ثقة الإسلام المولى الألمعي المؤتمن الآغا ميرزا حسن (سلمه الله تعالى) ، ابن حجة الإسلام والمسلمين ، عماد الملة والدين ، شيخ الفقهاء والمجتهدين ، العلامة الحاج ميرزا موسى الآغا الأسكوئي الحائري ، متع الله المسلمين بطول بقائه ، ونفع الله المؤمنين بأنوار فيوضاته ، في حداثة سنه ، وعنفوان شبابه ، جامعاً للكمالات ، فاحصاً عن المشكلات ، قد كمل الفقه والأًصول ، ونال درجة رفيعة من المعقول والمنقول ، وأتقن المتون والسطوح بالمذاكرة والدرس والتدريس والمباحثة ، وشفعها بتحصيل العلوم الرياضية ، والخوض في لجج الحكمة الإِلهية ، حصلت له بحمد الله ملكة يقتدر بها على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية ، واستجاز من الأحقر الفاني ، للدخول في زمرة حملة الأخبار ، وسلسلة رواة الآثار ، وحفظاً لتلك الروايات بالإِتصال عن الإِرسال ، وصوناً لها عن الإِندراس والإِهمال ، فأجزته ، وفقه الله لمرضاته ، وبلغه إلى أعلى طاعته ، أن يروي ، عني وعن مشايخي الآتي ذكر بعضهم في خاتمة الإِجازة ، كلّ ما صحّ لي روايته ، وجاز لي إِجازته ، من رواية الأخبار الساطعة الأنوار من الكتب المعروفة المشهورة المتداولة بين العلماء الأخيار ، خصوصاً الكتب القديمة الأربعة التي عليها المدار ، في الأزمنة والأعصار ، وهي (الكافي) و (الفقيه) و (التهذيب) و (الاستبصار) ، والأربعة الأُخرى الحديثة الجامعة لشتات الآثار ، وهي (العوالم) و (الوافي) و (الوسائل) و (البحار) ، وسائر كتب الحديث ، والتأليفات ، والتصنيفات ، وجميع ما خرج من قلمي من مؤلفاتي ، وتصنيفاتي ، وتقريراتي ، وسائر تصانيف مشايخي وأساتذتي الأساطين ، أعلى الله مقامهم ، ورفع في الخلد أَعلامهم . وأوصيه سلّمه الله بالتمسك بحبل الاِحتياط ، وملازمة أقوام الصراط ، وممارسة كتب الأَخبار ، وأحاديث العترة الطيبين الأَطهار ، وأن لا ينساني من صالح الدعوات في أوقات الخلوات ، وأدبار الصلوات ، والله خليفتي عليه ، وهو الحفيظ ونعم الوكيل.
ولنختم الإجازة بذكر طريق واحد من طرقي ومشايخي إجازتي ، لأنها كثيرة عديدة ، لا يسعني الوقت لذكرها كلاً وطراً ، ونكتفي بذكر أعلاها سنداً ، وأشرفها سلسلة ، تبركاً وتيمناً ، فأقول:
أَجزته ، سلّمه الله ، أن يروي عني ، عن السيّد العلامة السيّد مهدي القزويني ، عن عمه الجليل المعظم صاحب الكرامات السيّد باقر القزويني ، عن خاله العلامة الطباطبائي بحر العلوم ، عن الوحيد المجدد البهبهاني ، عن والده الأجل المولى الأكمل الأصبهاني ، عن شيخنا المجلسي بطرقه المذكورة في أول (الأربعين) ، وأول (البحار) ، وعن شيخنا المجلسي ، عن المحدث الحر العاملي بجميع طرقه المذكورة في آخر (الوسائل) ، ويكون الوصل ما علت الطرق من الخاصة والعامة ، ممكناً بهذه الطريق.
حرره الجاني فتح الله الغروي الأصبهاني ، المشهور بـ(شيخ الشريعة) عُفي عنه
(خامس من ربيع الأول 1338 هـ).
النصّ الكامل لعلم الفقهاء والمجتهدين وفخر الحكماء والمتألهين عمّي المقدس
مولانا الحاج ميرزا علي آقا الإحقاقي الحائري (أعلى الله مقامه):
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أكرمنا بالقلم ، وعلّمنا ما لم نعلم ، وفضّلنا بنبينا الأكرم ، على سائر الأُمم ، وصلى الله عليه وسلم ، وعلى أهل بيته الطاهرين ، سادات العرب والعجم ، وأولياء النعم ، صلاة يعجز عن وصفها الواصفون ، وعدّها العادّون.
أما بعد : لما كان من أَبلغ حكم الله ، وأَسبغ نعمائه ، أَنْ جعل علماء حكماء لحفظ دينه وأحكامه ، صائنين لشرائعه وحدوده عن الاِندراس والتلف ، فجعل يتلقى الخلف منهم عن السلف ما تحملوا من علوم وأَخبار ، وأسرار وآثار ، فنالوا بذلك أتمّ المواهب ، وبلغوا أسمى المراتب ، وكان ممن أخذ بالحظ الوافر ، وأعلى النصيب من أقداح المعلى والرقيب ، شقيقي ، وسندي ، وثقتي ، وعمادي ، الفاضل الكامل ، العلامة ، والعارف الباذل الفهّامة ، عضدي المؤتمن ، الحاج الميرزا حسن الحائري الإحقاقي ، بلغه الله مناه ، في عقباه ودنياه ، وجعله مرجعاً للأَنام ، وكافلاً للأيتام ، فإنه قد تتلمذ عن والدنا المعظم روحاً وجسداً ، المولى الحاج الميرزا موسى الحائري (قدّس الله تربته الزكية) ، وحضر عندي ، وعند بعض الأساتذة الكرام ، فمنحه الله تعالى وله الحمد ، ملكة يقتدر بها استنباط الأحكام الشرعية من أَدلتها التفصيلية ، كما أشار بذلك والدنا المقدس المذكور ، أعلى الله مقامه ، ورفع في جنان الخلد أَعلامه ، في إجازته له ، سلمه الله تعالى ، فبلغ مبالغ الرجال ، وصار أهلاً لأن تحطّ لديه الرحال ، ويميز عنده صريح الحق من سخيف المقال ، ويطلب منه حل المشكلات من الآيات والروايات . وقد أجزته أَنْ يروي عني جميع مقرواتي ومسموعاتي ، ورسائلي وتأليفاتي ، مما ظهر من قلمي ، أو يظهر ، وأن يروي عن سائر الكتب والأخبار الساطعة الأنوار ، والأدعية والمواعظ والأذكار ، سيما (نهج البلاغة) و (الصحيفة العلوية) و (الصحيفة السجادية) العلية المنار ، والكتب الأربعة المشهورة التي عليها المدار في جميع الأعصار والأمصار ، (الكافي) و (من لا يحضره الفقيه) و (التهذيب) و (الإِستبصار) ، والجوامع الثلاثة المعروفة : (الوافي) و (الوسائل) و (بحار الأنوار) وسائر ما صنّف وألف في الإسلام من العلماء الأعلام.
ولضعف بصري وضعف مزاجي معذور من ذكر تفصيل مشيخة إجازاتي ، وبعضها مذكور في إجازة والدي المقدس المفصلة إياي . فالتفصيل موكول إليها ، وقد تقدم له مني إجازة ووكالة مطلقة عامة ، وفيها ذكر بعض مشايخي ، وفيه الكفاية عن التفصيل .
تحريراً في سنة الخمس والستين بعد الألف والثلاثمائة من الهجرة النبوية
على هاجرها آلاف الصلوات والتحية ،
وأنا الأحقر الفاني علي بن موسى بن محمد بن باقر بن محمد سليم الحائري.
وأوصيه سلمه الله وجعلني وقاه . بالورع ، والتقوى ، والاحتياط في التحديث والفتوى ، فإنه المنجي من الوقوع في المهالك عند ضيق المسالك . قال عليه السلام : ” أخوك دينك فاحتط لدينك” ، والتجنب عن مجالسة أهل الدنيا والأغنياء ، فإنها تقسي القلوب ، وتنسي دار البقاء . وعليه بالرأفة والتحنن على الأيتام ، ومرافقة الفقراء حتى ينال الرضى والثواب يوم الجزاء ، ولا ينساني من دعاء الخير في الحياة والممات ، وأسأل الله لي وله حسن العاقبة والتوفيق خير صاحب ورفيق ، وأنا الأحقر الفاني أخوه وشقيقه علي بن موسى الحائري عُفي عنهما ، وجعل مآلهما خيراً مما مضى من أيامهما.
زواجه الميمون:
عندما كان والدي الماجد في كربلاء المقدسة قرب والده المعظم (قدس سره) . كان يقوم بمساعدته ، والذي كان (قدس سره) في ذلك الحين مرجعاً عاماً في نواحي كثيرة من المناطق العربية والأعجمية ، فيرجع إليه في التقليد مجموعة كبيرة من شيعة أهل بيت العصمة (عليهم السلام) في القفقاز ، وآذربيجان ، خراسان ، الكويت ، الأحساء ، العراق ، حيث كان يقوم (حفظه الله) بمساعدته في التبليغ الديني ، والتدريس ، والردّ على التساؤلات ، وكتابة الرسائل ، وغيرها من سائر الأُمور الدينية والاجتماعية ، وفي ذلك الحين عرض والديه عليه كريمة المرحوم المغفور له الحاج ميرزا عبدالله الصيرفي الشيرازي الأصل ، والطّهراني الإقامة ، والكربلائي المدفن ، ليقترن بها ، وكان ذلك المرحوم من الأخيار الربانيين في عصره ، ومن الموالين والمخلصين لأهل البيت (عليهم السلام) ، ولهذا فقد باع في أواخر حياته داره وكل ما يملك في طهران وهاجر إلى كربلاء المقدسة ، لكي يموت فيها ويدفن في تلك التربة والبقعة الطاهرة “وادي السلام الحسيني (عليه السلام)” ، وكانت هذه أمنيته ، حيث قام بشراء دار في تلك المدينة الفاضلة ليمضي سنواته الأخيرة من عمره بجوار الحرمين الشريفين والمقامين العظيمين مقام الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس (عليهما السلام) ، والاستيطان عند تلك العتبات المقدّسة.
وكانت زوجة هذا الرجل الربّاني الزاهد (رحمهما الله) امرأة محدّثه ومجلّلة ، ولم يكن لهما غير ابنة واحدة ، وكان لهما الفخر والشرف لمصاهرة أسرة العلم والتقوى ، وأسرة والاجتهاد ، والمرجعية ، ولذلك قاما بتزويج ابنتهما الوحيدة للوالد الماجد ، فأصبحت هذه الفتاة العفيفة والمؤمنة والطاهرة بعد ذلك أماً عطوفة ، ومربّية صالحة وصادقة لأبناءها ، والمعاونة الوفية والمخلصة لزوجها العزيز ، وبعد ستين عاماً من العيش المليء بالفخر والعزّة والكرامة والطهارة في بيت العلم والتقوى والولاية ، وبعد الصبر والمعاناة أمام جميع أنواع الشدائد والمصائب الحياتية ، ودّعت هذه الماجدة الشريفة دار الفناء متوجّهة إلى دار البقاء ، وذلك بعد الظهر في آخر يوم من شهر الصيام المبارك عام (1393 هـ . ق) ، والمصادف لـ(16 – آبان – 1352 هـ . ش) ، في مدينة طهران العاصمة ، فغادرت الدنيا بروح ملؤُها الصفاء والإيمان ومحبة وموالاة أهل بيت النبوة والولاية (عليهم السلام) ، وحلّقت روحها الطاهرة إلى جنات الخلود ، ودفنت في “جنة الزهراء” في المكان المخصّص لمقبرة عائلتها ، فرحمة الله (تعالى) عليها ، وعلى أبيها وأمها ، وأجدادها وجدّاتها ، وحشرها الله (تعالى) مع سيدة نساء العالمين ( عليها السلام ) .
أما والدها فهو المرحوم غلام رضا خان إقتصادي ، وكان أحد موظفي وزارة العدل المرموقين في طهران ، وهو مدفون في جوار مرقد سلالة الأئمة عبد الله ، في منطقة الري – طهران .
وكانت ثمرة ونتيجة هذا الزواج الميمون أبناءً صالحين ودّع البعض منهم في ذلك الحين دار الفناء إلى دار البقاء ، وأما الذين بقوا على قيد الحياة باستثنائي ، فهم :
1.خي المكرّم الحاج أحمد آقا الإحقاقي (وفّقه الله لمرضاته) ، الذي كان يعمل في سلك التجارة ، اضافة إلى إدارته للحسينية السجادية ، وبيت الزهراء (عليها السلام) في طهران ، فأطال الله عمره بالعزّة والسلامة ، ووفّقه لما يحبّ ويرضى.
2.خي المحترم الحاج محمد الإحقاقي ، الذي يعمل أيضاً في سلك التجارة وهو من قرّاء القرآن الكريم ، ويدير حسينية السجادية الكويتية في مشهد ، وسائر المؤسسات الخيرية للوالد الماجد في تلك البقعة الطاهرة ، إضافة إلى أنّه من الأعضاء الرئيسيين في “دار تحفيظ القرآن الكريم” بطهران ، فأيّده الله (تعالى) بتأييداته ، وحفظه وأبقاه.
إضافة إلى شقيقيَّ المذكورَين أعلاه فإنّ لي ثلاث أخوات شريفات مؤمنات عفيفات ، وكل واحدة منهنّ نموذج للإيمان والطهارة ، ولقضاء حوائج الناس والفقراء والمحتاجين من المستضعفين والأيتام ، واللواتي رَّبتن أولاداً صالحين أفاضل ، منهم الدكتور ، ومنهم المهندس.
وجدير ذكره أنّ الوالد الماجد قبل زواجه من والدتي المرحومة كان له زوجة ، عفيفة مؤمنة من أسرة كريمة كويتية ، وكانت ثمرة زواجهما ابنة عفيفة مؤمنة ، التي لها أبناءاً صالحين ، وزوجاً وفياً مؤمناً كريماً (حفظه الله تعالى).
المصلح الكبير والمعلّم القدير:
ومن إحدى الخصائص البارزة والمحيِّرة لذلك المعظم (قدس سره) هي أنّه عندما يضع قدمه في بلاد خربة حتى عمرت هذه البلاد ، ويعطي تلك الخرائب الموحشة والمظلمة نوراً وصفاءً وروحاً جديداً ، ومقصودي من هذه الخرائب والأنقاض ليست هدم وخراب الحائط أو الباب السقف وظلمة الليل البهيم ، إنما المقصود هو خرائب أعمدة الإيمان ، وانهدام الأسس الأخلاقية ، وتلاشي العقائد ، وظلمة القلوب والأفئدة ، لذلك فإنّ الإصلاحات الدينية والمذهبية التي قام بها في مدينة أَسكو – على سبيل المثال – معروفة وواضحة ، علماً بأنّ هذا الإعجاز المعنوي ، وتربية العلماء ، والإصلاحات الأخلاقية له ليست مختصة بمدينة أسكو فقط ، بل أنّه عندما يضع قدمه المبارك في أيّ مكان فإِنّ روح الإيمان والفضائل الأخلاقية والسجايا الإنسانية تصل إلى أجسام ساكني تلك الأمكنة ، عندما يخوض في غمار أيِّ بحر فان تلك المنطقة تنقلب وتثور أخلاقياً ودينياً في مختلف الأَبعاد الإيجابية ، حيث يقوم بإِصلاح النفوس الضعيفة ، ونبز الاختلافات الطائفية ، والمفاسد الأخلاقية ، والدسائس الشيطانية عن طريق دعواته بالحكمة والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن في تلك الأمكنة ، ويقوم فيها بنشر المواهب النفسية ، والفضائل الحميدة ، والأخوّة الإسلامية ، والأعمال الصالحة.
القيام بالثورة الدينية في تبريز:
أتذكر جيداً أنّه في عام (1324 هـ) عندما كان الوالد الماجد (قدّس سره) قاطناً مشهد الرضا (عليه السلام) وصل وفد من مدينة تبريز للقاءه ، حيث دعاه للحضور إلى تبريو في شهر رمضان المبارك لإلقاء المحاضرات والمواعظ وإرشاد وهداية أهالي تلك المنطقة ، فقبل منهم هذه الدعوة ، وبعد توجهه إلى تبريز ووصوله هناك شاهد “مسجد حجة الإسلام” إثر عدم الإدارة اللائقة في حالة خربة ومهجورة ، ورأى “مدرسة صاحب الأمر (عجل الله تعالى فرجه الشريفة)” المباركة التي لها أكثر من أربعين غرفة صف لتدريس طلاب العلوم الدينية منهدمة وخربة ، وقد جعلت بعض الغرف فيها مستودعات لدكاكين وبقاليات الساحة العمومية ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر ومع الأسف الشديد فإنّ المناطق التي كانت ترجع في تقليده لأُسرتنا وإثر بُعد ال والد الماجد (روحي فداه) عدّة سنوات عنها قد فرغت من العلماء وأهل المنبر والخطابة وطلاب العلوم الدينية ، ووصل الأمر إلى حد أنّه في بعض القرى والأرياف لم يكن هناك عالم ديني لكي يقرأ صلاة الميت.
إضافة إلى كل ذلك ، فإن الجيش الأحمر الشيوعي قام أيضاً بهجوم على المنطقة الآذرية ونشر الثقافة الالحادية فيها , ثم تأسيسهم للحكومة الديمقراطية والاشتراكية هناك ، وطغيان العلمانيين وضربهم للدين الحنيف بشتّى الوسائل ، من إشاعة الأخبار المغرضة ضد الإسلام ، وزلزلة أهالي تلك المنطقة في الدين والإيمان.
في هكذا جو مشحون ، وضمن هكذا شروط عاد الوالد المعظّم إلى مدينة تبريز ، وقد بقي مجموعة قليلة من بقية الماضين على إيمانهم وإخلاصهم ووفائهم السابق نحو العقيدة والمرجعية ، فاجتمع هؤلاء حوله ورجوه وتمنّوا عليه أن يقوم ذلك الطبيب الروحاني بالعلاج والإصلاح ، فوعدهم فوراً وطمأَنهم بعزيمة راسخة ونية صادقة أنه بعون الله وقوته ، والعناية الخاصة لولي العصر والزمان (أرواحنا فداه) سيبني الخراب ويجبر ويتمّ النقصان ، وأول خطوة قام بها عمل على ترميم وتجديد مسجد “لهچ ستون حجّة الإسلام” الواقع في وسط تبريز قبال المدرسة العلمية المشهورة بـ”الطّالبيّة” ، وفوّض الوالد الماجد (روحي فداه) على تولية ذلك المسجد العظيم المرحوم آية الله الميرزا جواد آقا عميد الإسلام (قدّس سره) وكان متولّياً على المسجد في حينه ، وفي بداية تلك السنة قام بإفتتاح المسجد والذي كان معطلاً من أكثر من (15) عاماً ، فعمّره وبناه أحسن تعمير وبناء وفرش ، فأُقيمت فيه صلاة الجماعة ومجالس الوعظ والإرشاد وسائر المراسم الدينية . وقام بعد ذلك بتجديد وتعمير مدرسة صاحب الأمر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) المباركة التي بقيت مهجورة ، فغيّرها بأسرع وقت إلى غرف وصفوف منسّقة مجلّلة ، وبعد ذلك قام شخصياً بتبريز وتنشأة جيل من العلماء وطلاب العلوم الدينية في تلك المدرسة ، وتخرّج على يديه خلال مدّة قصيرة أكثر من سبعين عالماً ومبلّغاً وخطيباً.
وفي عام (1342 هـ ش – 1963 م) هاجر نهائياً آذربيجان ليقطن المنطقة العربية وبالأخص مدينة الكويت ليواصل فيها خدماته الدينية ، وبهجرته آذربيجان بقيت الضجّة والشغف والشوق الديني على قوّتها ، وبعد مغادرته فوّضني ووكّلني لتسلّم جميع أموره ومسؤولياته التي سأذكرها مفصلاً في الفصل السابع من هذا الكتاب ، وقمت بتنفيذ تلك المسؤوليات التي وقعت على عاتقي خير قيام ، وشرعت بتدريس بحث الخارج في الفقه والأصول تلبية لطلب مجموعة من الفضلاء الأجلاّء في مدارس تبريز العلمية ، وذلك في مسجد “حجة الإسلام” العظيم ، وداومت على هذا المنوال من التدريس والوعظ والإرشاد والهداية إلى شهر مرداد (1359 هـ ش – 1980 م) ، والخير فيما وقع ، واليوم وإن كان الوالد الماجد في الكويت وأنا في طهران ، ولكن ولله الحمد فإنّ الطّلاب الأوفياء والعلماء العظام لمدرستنا ونهجنا يواصلون عملهم الديني كلّ من مركزه.
والهدف من نقل الواقعة المذكورة أعلاه هو تعريف القارئ الكريم ، وبالأخص مقلّدي ذلك المعظم أنّ مرجعهم الرشيد هو قائد حكيم ، عالم عامل ، زاهد تقي ، وأنّه (قدّس سره) عندما يمرّ في مكان ما يجعله أجواء تلك المنطقة مفعمة بالعطر والإيمان ، ومليئة بالتقوى والأعمال الصالحة.
الزهد والنزاهة:
ومن خصال هذا العالم العامل هي الزهد والتقوى ، وعدم المجاملة في حياته ، ومن أيّام صباه وخلال جميع مراحل حياته كان يعرض دائماً ويبتعد عن الدنيا وزخرفها ولذائذها الظاهرية الزائلة ، وكان دائم التفكير بتقديم الخدمات لساحة الدين القويم ، فأوقف أوقاته المباركة إما في الدرس والتّدريس ، أو الوعظ والتبليغ ، أو مساعدة المحتاجين والفقراء ، أو العبادة والذّكر ، والدعاء والرجاء والمناجات مع الحبيب الحقيقي العلي القدير (سبحانه وتعالى) ، ولم يفكّر يوماً بالراحة والسياحة ، أو التمتّع بالملذّات المشروعة ، بل إنّ أكبر لذّة له وأجملها هي عندما ينشغل بالعبادة والذّكر مع الله (سبحانه) ، أو عند خدمته للدين المقدس وخلق الله ، ولم يدّخر في عمره المبارك درهماً وديناراً ، أو ملكاً وعقاراً ، أو جمع ثروة ، وكلما يصل إليه من الحقوق الشرعية يبادر بأسرع وقت ممكن لصرفها في مواردها ومستحقّيها ، ولم يتصرّف بها يوماً لمنفعته الشخصية ، مع أنّه تصل إليه مريديه ومحبّيه ومقلّديه ومخلصيه الأوفياء ملايين التّوامين والدنانير ، ومع ذلك لم يشتري لنفسه داراً للسكن.
وفي عام (1342 هـ ش – 1963 م) عندما انتقل من تبريز إلى طهران اشترى له محبُّوه ومخلصوه وأصدقاؤه الكويتيين أوسع وأجمل فيلا في شارع “گنهرف ” بطهران ، وقدّموها له هدية ليسكن فيها ، وطبعاً فإنّ رد الهدية وعدم قبولها وبالأخص من الأصدقاء المؤمنين الأوفياء قبيح ، ولذلك قبل منهم الهدية ، ولكنه بقرارة نفسه لم يكن راضياً للعيش فيها ، ولذلك بعد أن استقرّ بها جعل من غرفة الضيافة حسينية ووضعها تحت تصرّف الناس ، وكانت تقام فيها في كل عصر يوم جمعة إضافة إلى أغلب الأيام والمناسبات الدينية المجالس الحسينية وتُحيى فيها مراسم قراءة وتفسير القرآن الكريم والوعظ والإرشاد ، وبالأخص نشر فضائل ومناقب العترة الطاهرة (عليهم السلام) ، وإقامة المجالس التأبينية لمظلومية وشهادة أولئك العظام (عليهم السلام) ، وإضافة إلى كل ذلك إقامة صلاة الجماعة بإمامته ، وهذه السُّنَّة السَّنِيَّة دائرة قبل أكثر من ثلاثين عاماً إلى اليوم من دون تعطيل أو توقّف ، وكان (قدس سره) يتحيّن الفرصة المؤاتية لكي يقدّم هدية الأصدقاء المخلصين لأهل بيت العصمة (عليهم السلام) إلى مواليه العظام (عليهم السلام) ، إلى أن حانت الفرصة في السنة الماضية ، فأوقف ذلك المكان إلى المقام المعظّم لأمِّ الأَئمة الصدّيقة الطاهرة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام) ، وقدّمه لها هدية ، وسمّاه باسم ” بيت الزهراء(عليه السلام) ” ، علماً أنّه أمر بهدم بناء تلك العمارة والبناء مكانها عمارة عظيمة مهيبة تشمل أقسام مختلفة من قبيل قاعة للإعلام والتبليغ ، وتعليم قراءة وتفسير القرآن الكريم ، ونشر مناقب وفضائل أهل بيت الطهارة (عليهم السلام) ، ومكان لإقامة صلاة الجماعة ، وقاعة واسعة لإطعام المؤمنين بمختلف طبقاتهم في ليالي الجمعة ، وأيّام التأبين والأعياد الدينية ، وقاعة أُخرى للمكتبة ، وغيرها من الأقسام والقاعات.
وتم تنفيذ أمره الأبوي فورياً – بحمد الله – وذلك نتيجة للأَتعاب والجهود والسهر وبالأخص المساعي الحميدة لأخي العزيز الحاج أحمد آقا الإحقاقي (حفظه الله) . والمساهمة التي تبرّع بها سماحته (روحي فداه) ، وهي من الهدايا والتبرّعات التي كانت بيده من الحقوق الشرعية ، لأجل مصاريف بناء هذا المكان الديني الشامخ ، فتمّ – بالعناية الغيبية للحق (تعالى) – افتتاحه في يوم الجمعة السابع عشر من شهر ربيع الأول عام (1415 هـ ق) ، والمصادف لـ(4- مرداد ماه 1373 هـ ش) ، وذلك بمناسبة ذكرى ولادة منقذ البشرية والانسانية خاتم الأنبياء والرسل الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين) ، وولادة حفيده سادس النجوم السماوية اللامعة في الإمامة والولاية ، زعيم المذهب الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) ، وبحضوره الشخصي ، واشتراك جمع كبير من العلماء الأعلام ، والفضلاء الكرام ، والخطباء الأعزاء ، والسّادة الأفاضل ، والأشراف الأخيار ، وجميع الأصدقاء والأعزاء قاطني طهران العاصمة ، اضافة إلى مشاركة أعداد كبيرة من الآذريين والكويتيين والخراسانيين ، وكبار الشخصيات العلمائية من البلدة الطيبة قم المقدسة ، ومدراء المراكز الخيرية ، ومنظّمي دروس تحفيظ القرآن الكريم بطهران ، وذلك في احتفال مهيب ومراسم روحية ومعنوية عظيمة ، وبدأ الحفل البهيج بآيات من الذكر الحكيم ، ثم بالخطب الفصيحة والبليغة الدينية ، وتواشيح وقصائد بالمناسبة لمدّاحي أهل بيت العصمة (عليهم السلام) ، وفي الختام الحفل المهيب أُقيمت صلاة الجماعة بإمامته (روحي فداه) ، ثم اطعام الآلاف من الضيوف الأعزّاء ، وفي نفس اليوم افتتاح ” بيت الزهراء (عليها السلام) ” وإثر ظنّه الحسن واعتماده عليّ حوّل إدارة المحراب والمنبر وسائر الأمور الدينية والروحية فيها إليَّ.
إذاً .. كما مرّ ذكره فإنّ من الخصائص العظيمة لهذا العالم الرباني العامل والزاهد هي حياته البسيطة حياة الزهد ، والتّقشّف والنّزاهة في بيت صغير وقديم في الكويت ، وحتى أنّه أوقف هذا البيت لإمام مسجد “الصحّاف” فهو بالتّالي ليس تحت ملكيته الخاصة ، والبيت المذكور خال من جميع الزخارف والتزيينات والسجادات الأعجمية باستثناء “موكيت” مفروشة على أرض الدار ، والعجب العجاب أنّ هذه الدار هي مسكن مرجع عظيم وزعيم عالمي قد ملأت ذكره الجميل ، وآثاره الخالدة أرجاء العالم شرقاً وغرباً والدار خالية أيضاً من الحاجب أو البوّاب أو الخادم أو الكاتب أو المستشار وغير ذلك من الخدم والحشم ، لذلك فإنّه يقوم شخصياً بجميع الأَعمال البيتية اضافة إلى مسؤولياته الاجتماعية الكثيرة، من اقامته لصلاة الجماعة ، وحضوره في الحسينيات ، وأجوبته شخصياً على الرسائل ، وردّه على المسائل الدينية للمراجعين إليه ، وقراءته للأدعية على رؤوس المرضى ، واستقبال الضيوف والقادمين ، وغيرها من عشرات الأُمور الدينية ، والمسؤوليات الجسام الاجتماعية وذكرها جميعاً في هذا المختصر تطول كثيراً ، علماً أنّه قد وصل إلى عتبة المئة عام ، فإذا ما دقّ أحدهم بابه أو رنّ جرس البيت يقوم شخصياً بالردّ عليه ، وإذا ما دخل عليه شخص الدار فإنّه سيُستقبل من قبله شخصياً ، ويجلب إليه بنفسه شراباً أو فاكهة لتقديمها للضيف الذي ورد عليه.
المواساة والتعاطف:
في العام (1322 – 1323 هـ ش) ، والمصادف لـ (1943 م) كان يقيم سماحته في مدينة الأحساء ، وكنت والعائلة بخدمته هناك ، وكانت دخّان ولهيب الحرب العالمية الثانية قد وصلت إلى أقصى نقاط العالم ، ومزّقته أوصالاً ، ومنطقة الأحساء شأنها شأن مناطق العالم الأخرى شهدت المرض والجوع والفقر ، وقد انتشر آنذاك بين أهلها مرض حمى التيفوئيد ، والذي أودى بحياة الكثيرين بحيث أن بعض البيوت قد خلت من ساكنيها ، فقد فارق أهلها الحياة نتيجة لهذا المرض ، وفي وضع سيءٍ وخطير كهذا الوضع ، ورغم أنّه كان باستطاعته الهجرة وترك البلاد تفادياً للإصابة بالمرض ، إلاّ أنّه وفاءاً منه وخدمة للانسان والانسانية ، وابرازاً بالوفاء للأصدقاء والمحبّين بقي صامداً في ذلك البلد ولم يغادره ، بل شرع فوراً بتأسيس لجنة أخذت على عاتقها تأمين الحاجات الأولية الضرورية للمواطنين المعوزين والفقراء الذين كان عددهم كثيراً ، بدءاً من تأمين الأرز والزيت والسكر والشاي والتمر ، إلى خزّانات المياه وغيرها ، وكان يشرف شخصياً على هذه المهمّة الصعبة ، ويقوم بعيادة المرضى وزيارة العوائل الفقيرة ، وهو يعطي التوجيهات اللازمة لتلبية حاجاتهم ، وبما أنّه لم يوجد طبيب حاذق في تلك المنطقة فقد كان أهلها يعتبرونه الأب الروحي لهم ، وكان سماحته لا يتوانى عن عيادة مرضى التيفوئيد الخطير والمعدي ، فكان يواسيهم ويخفف عن معاناتهم ويرفع عن معنوياتهم ، مُقدّماً كل ما استطاع تقديمه ، وفي نفس الوقت كان يحضر المناسبات الدينية ، ويقوم بتدريس طلاب العلوم الدينية ، وحتى أنه كان يدرّس بحث الخارج في الفقه والأُصول في تلك الدار “دار العلم” التي قام بتأسيسها ، ولم يقم بتعطيل الدراسة فيها أبداً ، ورغم مرور ومضي عشرات السنين على تلك المرحلة إلاّ أنّ مواقف ذلك الرجل الجليل والعالم الرباني والنوراني بقيت راسخة وخالدة في ذاكرة سكان تلك المنطقة إلى يومنا هذا ، ولم تقتصر محبّة هذا القائد والزعيم العطوف على مؤيديه ومقلّديه وحسب وإنّما شملت جميع سكّان الإحساء والحمد لله رب العالمين.
العظمة في الروح الانسانية وحبّ الانسان:
أتذكر جيداً أنّه في الأيام التي انتشرت فيها المجاعة ومختلف الأمراض وبالأخص مرض التيفوئيد هذا المرض السّاري والخطير ، وغزت منطقة الإحساء وذلك في عام (1363 هـ ق) ، وكما أشرت سابقاً فقد شكّل والدي الماجد لجنة لمكافحة المرض والفقر والمجاعة ، وقد ترأس شخصياً هذه اللجنة ، وفي يوم من الأيام وبينما كنت أجوب معه ومع اللجنة الأزقّة والطرقات ، وننتقل من بيت إلى آخر لعيادة المرضى والاطّلاع على أوضاعهم وصلنا إلى مناطق فقيرة ونائية ، وشاهدنا فيها بيتاً متداعياً وخرباً ، غرفة ضيّقة ومظلمة ومتسخة تنبعث من جنباتها العفونة والروائح الكريهة ، وفي مثل هذه الأماكن التي كانت يطلق عليها أسم البيوت كانت تعيش عائلات تلفظ أنفاسها الأخيرة ، ورغم خطورة الموقف ومعارضة مرافقي والدي ، صمّم على التجوال في تلك البيوت وعيادة مرضاها ، وكان في احدى هذه البيوت رجل يحتضر وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ، فدخل بيته ، وكان البيت وسخاً وتنبعث منه رائحة العفونة ، إلاّ أنّ مرافقي الوالد قالوا له : إن ذلك الرجل مريض ومصاب ومرضه سار وخطير للغاية وذهابك إليه فيه الكثير من الخطورة ، وإنّ حياتك ليست ملك لك وحدك بل هي ملك الجميع ، لذلك نخشى العواقب الوخيمة المترتّبة على دخولك دار هذا الرجل المريض ، فما إن سمع سماحة الوالد هذا الكلام حتى تجهّم متأسفاً وهو يخاطب الحضور قائلاً:
– ماذا تقولون أنتم .. إنّ الرجل الذي يحتضر هو قبل كل شيء إنسان ، وهو من محبّي أهل بيت العصمة (عليهم السلام) ، ويحتضر ، فهو إذاً يحتاج إلى العطف والمواساة وأنتم مع ذلك تمنعوني من زيارته ، إنّ ذلك حقاً مدعاة للعجب.
وترك الجميع ، ثم دخل عليه ، وكالأب العطوف وتأسياً لمولاه الإمام علي (عليه السلام) جلس على الأرض ، وأخذ برأس ذلك المريض ووضعه على ركبتيه ، وصار يتحدّث إليه ويواسيه ، وفجأة فتح المريض المحتضر عينيه ووجد منقذه جالساً بجنبه ، فقال بصوت منخفض : سيدي هل هذا أنتم !
ثم دعى للمريض بالشفاء وسقاه بيديه شربة ماء ، ثم مسح على رأسه وجبهته ، وبعد ذلك غادره وهو بهمة عالية ونشاط كامل ، وبعد ذلك منّ الله على هذا المريض بالشفاء ، حتى أنّه حضر في اليوم التالي إلى المسجد لأداء صلاة الجماعة ، فأبلغوا سماحته أنّ الرجل الذي كان يحتضر بالأمس قد حضر لأداء الصلاة ، وبفضل الله (سبحانه) ، وفضل دعواتكم وبركاتكم قد نجى من الموت المحتّم ، وهاهو الآن يؤدّي مع جموع المصلّين الصلاة في المسجد . وقام ذلك الرجل بالشكر الجزيل من الوالد (قدّس سره).
الرفق بالحيوان:
في عام (1347 هـ ش) ، والمصادف (1968 م) ، وبدعوة من بعض الأصدقاء الكرام في الكويت ، سافرت إلى هذا البلد ، وحللت ضيفاً لمدّة شهر عليه ، حيث تشرّفت بلقائه مرّة ثانية بعد سنوات من البعد والفراق ، وخلالها استمتعت بوجودي معه من الناحيتين الروحية والمعنوية ، فوجدته كعادته الدائمة ، فرغم كل الإمكانيات التي وفّرها إليه أصدقائه ومحبّيه إلاّ أنّه فضّل أن يعيش حياة في نهاية البساطة والتواضع ، فالبيت الذي كان يقيم فيه كان بيتاً عادياً ومتواضعاً ، وبما أنّ المرحومة والدتنا كانت مريضة وتعيش في طهران كان سماحته يعيش وحيداً في هذا البيت المتواضع الصغير ، وأثناء إقامتي هناك شاهدت سماحته وعند كل مغرب يصعد سطح الدار حاملاً معه بعض صحون الماء والغذاء ويبقى هناك هنيهة ثم يعود ، وبعد أن شاهدت ذلك منه مراراً دفعني الفضول في معرفة سرّ ذلك ، فقمت بمراقبته ، وأتحيّن الفرصة لصعود سطح الدار ، فما إن صعد حتى صعدتُ خلفه لأعرف ما يفعل ، وفجأة رأيت عدداً من القطط المشلولة تتجمّع فوق سطح الدار ، وكل واحدة منها قد فقدت إحدى أعضائها ، فمثلاً فقدت واحدة منها عينها ، والأُخرى رجلها ، والثالثة ذيلها ، والرابعة سقطت شعر جلدها ، فاجتمعت حوله ، وقام هو بدوره بتقديم الطعام والشراب إليهن ، وما أن فرغن من الأكل والشراب حتى غادرن المكان وهنٌ ترنو لسماحته صامتة ، وكأنما هذه الحيوانات البكماء تقدّم الشكر والامتنان له ، عند ذلك تقدّمت إليه وقلت له : سيدي الوالد انه والله لعمل رائع تقوم به ؟! فقال لي : يا ولدي إنّ بعض الناس الغير أوفياء عندما تكون هذه الحيوانات في شبابها وقوّتها وجمالها يدللنها ويضعونها في الأحضان ، ويجلسونها الأرائك الجميلة ، ولكن عندما تكبر هذه الحيوانات أو تمرض يرمون بها خارج البيت ، فتبقى من دون كفيل ورعاية وهائمة على وجوهن ، حيث تعاني العطش والجوع ، وبعد أن رأيت أنه ليس هناك من أحد يهتم بهذه الحيوانات عاهدت نفسي لأطعم هذه المخلوقات يومياً.
عندها لم يكن أمامي إلاّ أن أقف بإجلال وإكبار واحترام أمام هذا الموقف العظيم الذي وقفه سماحته ازاء الرفق بالحيوان ، فرغم كثرة واجباته وأموره الدينية والاجتماعية ، فإنَّ ذلك لم يمنعه من التفكير لحالة هذه الحيوانات المغلوبة على أمرها ، ومن دون إرادة انحنيت أمامه وأخذت بيده المباركة وقبّلتها ، لأنّها كانت منهلاً للرأفة والكرم والسخاء ، وأثنيت على ذلك القلب الرؤوف الرحيم المملوء عطفاً وحناناً.
منتهى الرحمة ومعراج الإنسانية:
لازلت أتذكّر أنّه كان في بيتنا قطاً مشاكساً ، لا يتوان من الاعتداء على القطط الأُخرى الأضعف منه ، ولم يكتف بالاستيلاء على طعامهم ، بل كان يهاجمهم بمخالبه الحادّة ، ولا يمر يوماً إلاّ ويلحق الضرر والخسائر بأصحابه ، وقد وصل الأمر بأن استاء من اعتداءاته الجميع ، وبما أنّه كان قطاً معافى ودائم الحركة ، كان من الصعب الإمساك به أو نقله إلى مكان آخر ، وكان أمل وأمنية أهل الدار التخلّص من هذا الحيوان المؤذي ، أو الإمساك به لينال جزاء أعماله العدوانية . ولم تمض مدّة طويلة حتى مرض هذا القط ، وساءت صحته ، وانزوى يتألم في زاوية من البيت ، وقد غارت عيناه ، ويعالج سكرات الموت ، ويكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة ، فبينما كان هذا القط على هذه الحالة شاهده يوماً سماحته ، ورأيته في غاية من الدهشة ، حيث أن هذا الأب العطوف لا يستطيع أن يتحمّل رؤية الحيوان وهو يتألم ، لذلك دخل الغرفة ، وجاء مسرعاً بوعاء من الماء البارد ، وبعطفه المعهود أخذ يسقي ذلك الحيوان الذي كان يعاني من العطش جرعة بعد جرعة وهو يرش الماء عليه ، وما أن انتهى الماء حتى أطبق القط جفنيه وفارق الحياة وهدأ أنينه للأبد ، وقد أدهشني وحيّرني هذا المنظر بشدّة ، وأسرني ذلك الموقف منه بعمق ، ولا زلت منتشياً روحياً بتلك اللحظة الملكوتية .. كم كنت أتمنّى أن يكون الناس متسامحين عطوفين بين بعضهم البعض ، فإذا ساد التسامح !! ألا نتصور أن يصبح هذا العالم المظلم جميلاً وبّراقاً ؟! فتتبدّل السيئات حسنات ، والأشواك إلى ورود ، والله (سبحانه) أيضاً يقول في محكم كتابه الكريم : ] خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ[(الأعراف:199).
أجل … إنّه أسوة في العفو والفضيلة.
المواساة مع الحيوان:
يروي المرحوم الحاج ميرزا مختار أمين الذّاكرين ، وكان من خطباء المنبر في تبريز ، أنّه كنّا في يوم من الأيام مرافقاً لسماحته في سفر على ظهور الجياد منطلقين من قرية (شيرامين) قاصدين قرية (دستجرد) ، وكان الجو شديد الحرارة ، وكانت المسافة بين القريتين تصل إلى عشرين كيلو متراً ، وهي تمر عبر وديان جافة مقفرة حارة ، ولم يكن معنا ماءاً . وكنّا نأمل بالحصول عليه من محطّة للاستراحة كانت موجودة على منتصف الطريق ، وبعد أن جدَّ بنا السَّير وقطعنا عدّة كيلو مترات أحسسنا بالعطش الشديد ، وعند وصولنا إلى محطة الاستراحة وجدناها مع الأسف مغلقة ، فزاد عطشنا ، وأخذ اليأس يتغلغل إلى نفوسنا ، وقد أعيتنا الحيلة في التغلب على هذا العطش الذي كان يزداد بفعل حرارة الصيف اللاهبة ، وبينما كنت على هذه الحالة شاهدت سماحته يُخرج من جيبه حبتان من حبّات الدَّرّاق وقال لي : عندما كنّا نغادر بلدة (شيرامين) أعطاني أحد المحبِّين هاتين الحبتين .. فأعطاني واحدة منها وقال لي : تناولها لكي تخفّف من عطشك.
شكرت سماحته ، وتناولتها بكل شكر وامتنان ، وقمت بأكلها في تلك الظروف الحرجة ، وبدت لي وكأنها فاكهة من فواكه الجنة ، ورأيت أن سماحته قسّم حبّة الدّراق التي بحوزته إلى نصفين ، فأعطى نصفها إلى جواده وهو يقول لي : إنّ الجواد عطشان أكثر منّا ، وليس من الإنصاف أن لا نشاكه في هذه الفاكهة لكي يتغلّب على عطشه . وكنتُ في غاية الدهشة وأنا أراه قد أطعم نصف الدراقة للحيوان الأبكم ، ثم تناول هو النصف الآخر.
كم هو جميل وجليل مثل هذا المنظر الذي لا نظير له ، يصادف حدوثه خلال قرون على أيدي رجال شرفاء ، وتلامذة حقيقيون لمدرسة سيّد المتقين الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) الذين يدهشون الجميع بأعمالهم العظيمة والمعنوية.
قمة التضحية والوفاء:
سبق وتحدّثت للسادة القرّاء الأكارم أن هذا العالم العلاّم بعد دخوله إلى تبريز ومنطقة آذربيجان عام (1324 هـ ش) ، والمصادف لـ(1945 م) ، كان من أهدافه وبرامجه الأولية إعمار وبناء هذه المدينة ، وتلبية حاجاتها ، وكما أسلفت فقد كان المركزان المقدّسان لهذه المدينة ونعني بهما (مسجد لهچ ستون حجّة الإسلام) ، و(مدرسة صاحب الأمر (عجل الله فرجه) المباركة) قد توقّفا عن تأدية الواجب ولحق بهما الإهمال والضرر ، وكانا آيلان للسقوط ، لذلك أشرف بنفسه على إعادة اعمارهما وافتتاحهما بكل فخر واعتزاز ، وبفضل جهوده الجبّارة ومبادراته الكريمة أصبح المسجد يعجّ بالمصلّين ، وأخذت المدرسة يرتادها المئات من طلاب العلوم الدينية ، وأصبح هذان العملان الجليلان محطّ أنظار وإعجاب الجميع.
وفي تلك الأيام وخلافاً عمّا نحن عليه الآن ، لم يكن هناك حمّامات في البيوت ، وكان الناس من النساء والرجال مضطرين للذهاب إلى الحمامات العامة للاستحمام والنظافة ، وكانت هذه الحمامات منتشرة في الأرياف والبلدات ، وعددها تتناسب مع تعداد السكان ، وفي بلدة أسكو التي شهدت مولد أجدادنا العظام كان والدي الماجد يُبدي اهتماماً خاصاً للأمور الدينية والاجتماعية الخاصة بهذه البلدة . ورغم أنّ البلدة كانت تعجّ بالسكان إلاّ أنّ الحمامات الموجودة فيها قليلة ولا تفي بالغرض المطلوب فهي عبارة عن حمامين فقط ، وغالباً ما يكون أحدهما معطلاً بسبب الإهمال أو الخراب والحجج الأخرى أكثر أيام السنة ، وكان سكان أسكو التوّاقين للنظافة في سبيل الحفاظ على واجباتهم الدينية ، ومنها الاغتسال الشرعي يعانون كثيراً بحيث أنّه كانت النساء وفي بعض المناسبات ولعدم وجود الحمامات يلجأن إلى التيمّم بالتراب ، أو إنهن يضطررن بالذهاب رغم شدّة البرد والثلج مشياً على الأقدام إلى القرى المجاورة ، وأثناء عودتهنّ غالباً ما يصبن بالزكام والرشح والأمراض المزمنة والمستعصية العلاج ، هكذا كانت الأوضاع مؤسفة في بلدتنا العزيزة (أسكو) وفي سبيل سدِّ هذا النقص الكبير بذل بعض المخلصين من أبناء هذه البلدة قصارى جهودهم لكي يوفّقوا ببناء حمام أو حمّامين جديدين للبلدة ، وكل هذه المشاكل الرئيسية التي تتعلق بأمور الناس الصحية والدينية ونتيجة للفقر الزائد والعراقيل التي وضعها بعض المنتفعين وضعيفي الإيمان لم يوفّق سماحته في حينها من انجاز هذا العمل النّبيل ، ولكن في إحدى الأيام جاءت مجموعة من الرجال ونسوة أسكو إلى مدينة تبريز متوجَّهن إلى بيتنا الذي كانوا يعتبرونه في الحقيقة ملجأً وملاذاً لهم ، ورجوا وتوسّلوا إلى والدي الماجد وطلبوا منه أن يعمل جاهداً في كيفية تلافي هذا النقص الذي تعاني منه البلدة ، وعلى إثر هذا الطلب توجّه سماحته إلى بلدة أسكو وخطب في أهاليها طالباً مراراً من جميع الأهالي وخاصة الطبقة الغنية والمرفّهة مشجعاً إيّاهم أن تُساهموا في انجاز هذا العمل ، إلاّ أنّه ومع الأسف الشديد قد واجه طلبه هذا سكوتاً مطبقاً ، ولم يستجب أحد لتلبية طلبه.
وفي تلك الأيام وبسبب الظروف المادية الصعبة وفقدان مواد البناء والإهمال المتعمد الذي مارسته الدولة . ثم وجود عدد من المخربين الذين كانوا يخالفون القيام بأيِّ إصلاحات في البلدة أسكو ، اضطرّ سماحته أن يتحمّل هذه المسؤولية بنفسه ، ويأخذ الأمور على عاتقه ، وأول شيء أقدم عليه هو أن عرض بيته الوحيد في مدينة مشهد المقدسة ، والذي كان يأمل بعد إعادة الأوضاع إلى نصابها في آذربيجان من العودة إليه والإقامة إلى جوار ثامن الأئمة الأَطهار علي بن موسى الرضا (عليه السلام) للبيع بمبلغ تسعة آلاف تومان ، وبادر على الفور بشراء أرض خربة كانت فيما مضى بقايا لحمام قديم آنذاك وذلك بمبلغ خمسين ألف تومان ، وقام شخصياً بوضع حجر الأساس لهذا البناء ، ثم ضرب أول معول في الأرض ايذاناً ببدء هذا العمل النبيل ، وقد بعثت هذه المبادرة الطيبة التي أقدم عليها سماحته الحماس والنشاط والحركة في نفوس أهالي أسكو الغيارى ، وجعلتهم يتسارعون إلى مساندة قائدهم وزعيمهم الشجاع ، وساهم كل حسب استطاعته في المشاركة في إنجاز هذا العمل الهام ، وفي الحقيقة كان موقفاً رائعاً يذكّرنا بحفر الخندق حول المدينة المنورة في حرب الأحزاب ، لقد حملت الأمة والزعيم المعاول وأخذوا يعملون بشكل لا يعرف الملل لبناء هذا الحمام الجديد ، إلاّ أن الشيء الذي لا أعرفه حتى الآن أنّ الذين عارضوا بناء الحمام إلى أيِّ مبدأ قد استندوا ؟! فقد عارض هذا المشروع الخيري عدد من الجهلة والحاسدين وبعض المغرّر بهم ، وحسب اعتقادي أنّ مشروعاً حضرياً كهذا لا يجوز معارضته إطلاقاً ، إلاّ أنّهم رغم هذه الجهود استمروا في وضع العراقيل أمام طريق إتمام بناء هذا الحمام ، وقد بدرت منهم أعمالاً يؤسف لها ، ولا أريد هنا أن أُضيف شيئاً إلاّ أنّني أودّ القول بأن عملهم هذا قد أدمى القلب العطوف لذلك العالم الجليل . وذات يوم عندما كنت جالساً في البيت دخل على سماحته عدد من أصدقائه إليه والغضب بادياً على وجوههم ، وغصّة في حناجرهم ، وهم يحملون رزماً من النقود ، وقالوا : سيدنا لقد نفذ صبرنا اليوم إِزاء ما نلاقيه من أذى من عدد من الأشخاص ونرجو منكم السماح لنا بإنزال العقاب بهم جزاءاً لما يقومون بها من أعمال منافية للدين ، والإنسانية ، وإننا نريد أن نخلِّص ونُريح سماحتكم وأهالي بلدة أسكو من شرورهم ، ونصرف هذه النقود لهذا الغرض..
وأضافوا : لقد كدنا أن نقدم في الليلة الماضية على هذا العمل دون علمكم إلاّ أنّ البعض منّا اقترح وقال : الواجب يتطلب منّا أن نتشاور معكم قبل القيام بأيّ عمل ضدهم ، وها نحن قد أَطعنا وأَعلمنا سماحتكم على ذلك ، وكلّنا أمل بأن توافقوا على ما اقترحنا عليكم.
وفي الأثناء كان الجميع ينتظر بأنّ الوالد الماجد سوف يصدر أمراً شرعياً لجلد وتعزيز أولئك المعتدين ، ولكننا لاحظنا فجأة أن ملامح وجهه المبارك قد تغيّرت ، وقد انهمرت دموعه من عينه وهو يقول لهم : إنني أشكر محبتكم ووفاءكم وتضحياتكم إلاّ أنكم لابد أن تعلموا بأنّ أولئك الأشخاص هم أيضاً بمثابة أولادي ، ويمكن أن نجد بين أبناء الإنسان من هو صالح ومن هو طالح ، إنني لن أقبل أبداً بالاعتراض إلى أولئك وان هم أساؤوا إليّ وليعلموا أنّ ليس لي هدف سوى خدمة أبناء أسكو ، لذلك لا أسمح لكم أبداً بأن تلحقوا بهم أبسط الأضرار ، أسأل الله لكم حسن العاقبة وأن يهديهم أيضاً..
وفي هذا الظرف الحسّاس جداً عمّ المجلس سكوتاً لدقائق ، ثم عمّ المكان هالة من نور المحبّة نتيجة لصبر وحلم هذا الأب الرّوحي والمصلح الكبير ، فهذا هو تلألؤ الإنسانية الرفيع ، وقد استلهم سماحته هذا الخلق الرفيع من صاحب الخلق العظيم سيدنا محمد خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي قال : (إنّما بُعثت لأُتمّم مكارم الأخلاق) ، وعلى جميع المسلمين أن يستفيدوا ويتعلّموا من هذه الحكمة العملية المتبلورة من مكارم الأخلاق ، ومن خلال أخلاقهم الحسنة عليهم أن يضيئوا العالم التي تسوده الظلمة والظلام بنور الإيمان والمحبة ، عندها سنخطو خطوات نحو عالم السلام والصفاء والعدل والاستقرار والأُخوّة ، وستزول كل الحروب وإراقة الدماء والاعتداءات والظلم والانتقام التي تكون من وليدة وساوس الشيطان ، قال (تعالى) بسم الله الرحمن الرحيم : ] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [(آل عمران:103). وإزاء كلّ هذا الصبر والحلم الذي أبداه سماحته ، نشاهد ماذا كانت عاقبة الأمور ، فقد تمّ تشييد الحمام ــ وذلك بهمّته العالية ــ بشكل جميل ومتين ، وأصبح حمّاماً لا نظير له في تلك الديار ، وتمّ افتتاحه في يوم مبارك ــ وأعتقد أنّه كان في النصف من شهر شعبان المعظم ــ في جوٍ من الفرح والسرور ، في حين كانت الغالبية العظمى من أهالي البلدة يعبِّرون عن فرحهم من خلال توزيع الحلويات ، وتبادل القبل والتهاني ، وتقبيل يد ذلك الأب العطوف ، وأطلق على ذلك الحمام اسم (حمّام الامام) ، وأصبح مردوده وقفاً للأمور الشرعية في تلك الديار ، ورغم أنّه قد مرّ على هذه الحادثة ما يقارب الخمسين عاماً ، إلاّ أنّ أثر ذلك العمل الطيب خالد في النفوس ، حيث استفاد منه الأهالي رجالاً ونساءاً وأطفالاً وشيوخاً ، وهم يرفعون أيديهم بالدّعاء لبانيه ومؤسِّسه . وأمّا أولئك الذين كانوا يعارضون هذا المشروع الخيري بأعمالهم المشينة فقد ندموا على ما اقترفوا . حيث توجّهوا إلى سماحته مسرعين ومظهرين النّدم وهم يُعلنون التوبة على يديه.
السّمو المطلق:
في أثناء حمام (أسكو) أتذكر خاطرة لا تزال في ذهني حيث كنت دائم التفكير بها ، وهي توضح العظمة والسمو وعدم اهتمام هذا العالم الجليل الشهم بالأجانب الغرباء ، والحكاية هي كالتالي :
كما مرّ ذكره ، فقد كان هناك عدد من المشاغبين الذين أعلنوا معارضتهم للإصلاحات التي تمّت في أسكو ، وكانوا يعارضون الوالد الماجد في موضوع ذلك البناء الخيري ، ونتيجة ذلك فقد أثّرت دعاياتهم على بعض العوام ، وقد أثّرت دعاياتهم السّيئة من جهة والفقر المدقع الذي كان يُعاني منه المواطنين من جهة أُخرى على جمع التبرّعات ، حيث وصل مستوى هذه التبرعات إلى الصفر وتوقّف كلياً ، لذلك توقف بناء الحمّام ، وفصل الشتاء على الأبواب ، فإذا لم ينتهي بناء الحمام قبل هطول الأمطار والثلوج والبرد الشديد فإِنّ جميع الجهود التي بذلت سوف تذهب سُدى ، وفي الحقيقة كنّا في ذلك الحين نفكّر بوسيلة ما لأجل إتمام عمل البناء ، وفي تلك المرحلة كانت الولايات المتحدة الأمريكية ولأجل الترويج لمشروعاتها الهدّامة طرحت مشروعها المسمى (مشروع ترومن) (البند الرابع للترومن) في إيران ، وكان الهدف من هذا المشروع بناء الحمّامات ، والمدارس ، والمستشفيات ، ودورات المياه الصحّية ، وسائر الأمور العمرانية ذات النفع العام في المناطق النائية من البلاد.
وفي إحدى الأيّام كنت في مجلس الوالد الماجد ، وفجأة رأيت عدداً من أعضاء ذلك المشروع ( البند الرابع .. ) دخلوا مجلس الوالد ، وطبعاً هم من التبعية الإيرانية ، ومعهم اثنان من أعيان أسكو ، وبعد أن استقرّ بهم المقام أَعربوا لسماحته عن أسفهم الشديد لمعارضتهم بناء حمّام أسكو ، وصرّحوا قائلين : جئنا لإكمال وإتمام بناء حمّام أسكو وتسليمه لكم بعد بناءه.
فأجابهم سماحة الوالد الماجد قائلاً : إنني إذ أشكر مساعيكم الخيّرة في هذا المجال ، إلاّ أنّني لا أستطيع قبول تعاونكم ، لأن غيرتي الإسلامية والإيرانية لا تسمح لي أن يقول الناس فيما بعد بأَنّ عدداً من المسلمين تكاتفوا وتعاضدوا لأجل بناء حمّام ، ولكنّهم عجزوا عن ذلك فجاءت دولة أجنبية كأمريكا لكي تنفّذ هذا العمل نيابة عنهم.
وبعد أن سكت هنيهة قال لهم باحترام : إننا مستعدّون على أن نبقى بدون حمّام ، ولكننا لن نخضع لهذا العار.
وفي هذه الأثناء خيّم السكوت المطبق على المجلس ، واستولت الحيرة والدهشة على وجوه أولئك السّادة الذين جاؤوا للمساعدة لما سمعوه من هذا العالم الروحاني والواقعي ، ثم تدخّل أحدهم بالحديث قائلاً : حضرة السيد نحن لا نطلب أيّ مستمسك أو سند لقاء المبالغ التي نقدّمها لكم لإنجاز حمّام أسكو ، وإذا رغبتم فإن هذا الموضوع سيبقى سراً بيننا.
هنا بدأ التجهّم على محيّاه وقال بحزم : كيف يمدّ يده للآخرين من له ولي كالإمام صاحب العصر والزمان ( عجّل الله تعالى فرجه الشريف ) ، وأرجو أن لا تتحدث في ذلك مرة أخرى ، ولا تسبِّبوا لي الإزعاج أكثر من هذا.
وقد أعرب الوالد الماجد ( روحي فداه ) عن هذه المبادرة الشجاعة في الوقت الذي كان يعيش فيه هو ومن حوله من الأوفياء بعوزٍ مطلق ، وكانت في الحقيقة البلاد تعيش الفقر والبؤس ، وكان دخول المثّقفين ” الازيلگن ، والروس ، وأمريكا ” إلى إيران هو أحد ويلات الحرب العالمية الثانية ، لذلك رحّب الكثيرون بمشروع ” ترومان ” ومدّوا يد التسوّل ، لم يفكّروا بالذلّ والعار الذي جلبه هذا المشروع للبلاد ، حتى وصل الأَمر بهم أن يُوسِّطوا الآخرين لأَجل الحصول على الأَموال من الأجانب . وبحمد الله ( سبحانه ) فإنّ مرجعنا المعظم في تلك المرحلة قد رفع رؤوسنا عالياً ولم يستسلم لمشيئة الآخرين ، وقد وصل إلى أسماعنا فيما بعد أن بعض المسؤولين من الأجانب المشرفين على تلك المؤسسة قالوا : خلال المدّة التي خدمنا فيها في مختلف المناطق والبلدان لم نشاهد شخصية دينية رفيعة المستوى وحازمة كما هي عليه شخصية هذا العالم الجليل ، ،إن هذه الشخصية تستحق التقديس والاحترام حقاً.
التضحية في سبيل خلاص البعض من الموت:
في العام ( 1322 هـ ش ) ، والمصادف لـ (1943 م ) كانت الحرب العالمية الثانية في أَوجها ، وكان دخانها يخيم على العالم ، وكانت الغالبية العظمى من دول العالم تحترق بنيرانها ، ومنعت إيران آنذاك الحج إلى بيت الله الحرام ، إلاّ أنّ عدد كبيراً من المواطنين الإيرانيين الذين كانوا باستطاعتهم الحج رفضوا هذه الفكرة ، فحاولوا تأدية هذه الفريضة بشتّى السّبل والطرق ، وتجاهلوا تماماً ما أعلنته دولتهم ، وجاءوا كمسافرين عاديين بورقة عادية تحلّ محلّ جواز السفر إلى دولة الكويت ليتسنّى لهم عن طريق البر الوصول إلى الحجاز لأداء فريضة الحج . وكان والدي الماجد وكعادته صباح كل يوم يحضر مع لفيف من الأصدقاء في الحسينية الجعفرية في الكويت حيث يستمعون إلى قراءة مجلس حسيني ، وفي ذلك اليوم شاهدوا عدداً من الإيرانيين وهم يحملون حقائبهم ويدخلون إلى ساحة الحسينية إلاّ أنّ المسؤولين عن الحسينية منعوهم من الدخول ، وأدّى هذا الوضع إلى الشجار والفوضى ، وعندئذٍ تدخّل سماحته وعرف أنّ نيّة هؤلاء المواطنين الأعزاء هي الذهاب إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج ، وبما أنه لم يكن في الكويت آنذاك فنادق للمسافرين ، ولذلك اضطروا للتوجّه إلى المساجد والحسينيات للإقامة فيها ، حينها أمر سماحته مسؤولي الحسينية الجعفرية قائلاً : إنّ هؤلاء هم زوّار بيت الله الحرام ومن الأخوة الإيرانيين ، ونحن ملزمون باستضافتهم لذلك لا يحق لأحد أن يمنعهم من دخول الحسينية .. ومنذ ذلك الحين أصبحت الحسينية الجعفرية وسائر الحسينيات الموجودة في الكويت على استعداد لاستقبال الضيوف ، وبما أنّه كان بين حجاج بيت الله الحرام عدداً من السادة والعلماء الأفاضل ، فقد أمر والدنا أن يُستضاف هؤلاء السادة والعلماء عند الأهالي ، وهكذا بقي الناس العاديين في الحسينيات وأمّا السّادة والعلماء الأفاضل فقد حلّوا ضيوفاً على المقتدرين من أبناء الكويت ، حتى أنّ ذلك اليوم وأهالي الكويت الكرام يستقبلون ضيوفهم ببشاشة وكرم وسخاء ورحابة صدر ، ويقدمون كل ما باستطاعتهم من أجل راحتهم ، ويفعلون ذلك تقرباً إلى الله ونزولاً عند رغبة مولاهم ، وقد ازداد عدد الحجاج يوماً بعد يوم حتى وصل عددهم إلى سبعة آلاف حاج ، وعندما اقترب موسم الحج توزّعوا إلى عدة مجموعات وانضمّوا إلى قوافل الحجاج الكويتيين وغير الكويتيين حيث توجّهوا إلى أداء فريضة الحج ، وكان بين هؤلاء الحجاج ألفي حاج من أهالي آذربيجان وكانوا من مقلّدي جدِّي المعظم ( قدس سره ) ، وسافروا مع شخص يٌدعى السيد أحمد الهاشمي الإحسائي والذي كان هو بدوره من أحد مريدي ومقلّدي والدي المعظّم ، وعند اقتراب موعد سفر موكب الحجاج جاء رئيس الموكب وهو السيد أحمد الهاشمي لمقابلة سماحة الوالد ، وقال له : سيدي كلما فكرت بهذا الأمر أرى أنّ هذا السفر الخطير الذي ينطوي على المسؤولية لا يمكن أن يتم بدون وجودكم ، لذلك جئت إليكم طالباً منكم قبول دعوتي للسفر معنا في هذا الوقت العصيب والحساس ، وأمّا سبب ذلك فهو أولاً أنّ وجودكم سيكون دليلاً لنا في مناسك الحج ، ونكون بفضل توجيهاتكم مطمئنين لأداء مناسك حجّنا ، وثانياً فإنّ الغالبية العظمى من هؤلاء الزوّار هم من أهالي أذربيجان ، وإنّ عدداً كبيراً منهم من مقلّدي سماحتكم ، إضافة إلى أننا لا نعرف لغتهم أو عاداتهم أو تقاليدهم ، وأنتم الوحيد الذي باستطاعتكم مساعدتهم ، وتكونوا مترجماً بيننا وبينهم لتلبية حاجاتهم كي نستطيع القيام بواجباتنا تجاههم على أحسن وجه ، وأنا على يقين كامل أن هؤلاء الحجاج لو علموا بأنكم قد قبلتم الرّيادة الدينية لموكبهم سيكونوا في غاية السرور والابتهاج ، وسأسلّم لكم هناك المسؤولية الشرعية لهؤلاء الحجاج ، وفي النهاية فإِنّ الرأي رأيكم.
يقول الوالد : لقد رأيت نفسي في حالة استثنائية ، فمن جهة لا أرى في نفسي استعداداً لقبول دعوة هذا السيد المخلص ، ومن جهة ثانية أرى نفسي مسؤولاً أمام ضيوف بيت الله الحرام ، وبعد تفكير عميق رأيت بأنني مضطر شرعاً لقبول هذه الدعوة ، وبذلك استطعت الخلاص من حالة الاضطراب المفرط من عدم تلبية هذه الدعوة ، وأبديت استعدادي لقبول هذا السفر الخطير والمقدس ، وفي تلك الليلة ودّعت أهل بيتي وأصدقائي والتحقت في صباح اليوم التالي بجموع الحجاج الموجودين خارج بوّابة الكويت استعداداً للسفر .. وما إن شاهدوني وعلموا بأنّي المشرف الديني للموكب عمّهم الفرح والسرور ، وعلت وجوههم الفرحة والامتنان والرّضا الذي لا يوصف ، وبعد قراءة دعاء سفر الحج تحركت مواكب الحجاج بالتهليل والتكبير الذي دوّى في فضاء البادية منبعثاً من أهالي الكويت الذين جاؤوا لوداع ضيوفهم الأعزاء ووداعي شخصياً ، وفي الوقت الذي كانت فيه قلوبنا تنبض شوقاً لزيارة قبلة الإسلام ، وزيارة قبر سيد المرسلين محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والأئمة المعصومين ( عليهم السلام ) ، وسائر العتبات المقدسة ، توجّه الموكب من الكويت إلى الحجاز وسط موجة من الفرح والدموع ، وكان أمامنا سفر فيه الكثير من الأخطار والصعوبات لأنّه أولاً كانت السيارات التي تقلّ الحجّاج ونتيجة لظروف الحرب تفقد لقطع الغيار الجديدة ، والغالبية العظمى منها مستعملة ، وقد أُجرِيت عليها التصليحات اللازمة لذلك لا يمكن الاعتماد عليها ، وثانياً فإنّ طريق سفرنا من الكويت إلى الحجاز طويل جداً ، ويتوجّب علينا عبور الصحراء الخطرة والأراضي القاحلة والرمال ، ناهيك على أنّه لا توجد طرقاً معبدة للسيارات ، لذلك كانت تسير على هواها وتسلك الطريق الذي تريده ، في صورة غير منظمة ، والغالبية العظمى منها تغوص في الرمال وتتوقف على الحركة مما يضطر الركاب إلى نزول ودفعها من الخلف ، وبهذا يبذلون الكثير من الجهد والتعب لتخليص سياراتهم من هذه الأخطار الصحراوية ، وبما أن ظروف الصحراء كانت متشابهة لذلك كانت هذه العوارض المؤلمة تتكرر وتحدث لجميع سيارات الحجاج ، إضافة لذلك كانت جموع الحجّاج تعاني من قلّة الماء والغذاء ، وبسبب ذلك يواجهون الكثير من الصعوبات هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنّ شمس شبه الجزيرة العربية المحرقة وهواؤها الحار والجاف هو الآخر قد سلب راحة الحجاج وأقلق بالهم ، وخاصة أن إخوتنا الآذريين الذين اعتادوا على المناخ المعتدل في ديارهم وخاصة على سفوح جبل ” بهشتي سهند ” و ” سبلان ” لم يستطيعوا تحمّل هذا المناخ الحار جداً ، وكانت السيارات تسابق بعضها في الوديان والوعرة بغية التخلّص من هذا الهلاك المحتم ، وكان سائقنا هو الآخر يحاول اجتياز السيارات الأُخرى إلاّ أنّني أمرته أن يسير خلف جميع السيارات ، وعندها سألني بدهشة وقال: لماذا يا ترى ؟!
فقلت له : أولاً وكما سمعت أنّه بالإضافة إلى كونك سائقاً فإنك ميكانيكي ، فإن تعطّلت إحدى سيارات الحجاج وهذا الاحتمال وارد جداً فإنّه باستطاعتك تصليح تلك السيارة المعطّلة لتنطلق من جديد . وبذلك تكون قد نجّيت ركابها من الموت ، وثانياً وكما تعلم فأنا أتحمّل مسؤولية هذه الرحلة ، وأودّ أن أكون دائماً خلف القافلة للاطمئنان على سيرها وسلامة أفرادها.
وما هي إلاّ لحظات حتى حدث ما كنت أتوقّعه فقد تعطّلت السيارات واحدة تلو الأُخرى وكنّا نقوم بإصلاحها وتسييرها ، فلو كنّا نسير في مقدمة السيارات ، فإنّ تلك السيارات التي تعطّلت ستبقى وسط الصحراء ، ولا يدري أحد ما سيؤول إليه مصير ركابها ، هل هو الضياع ، أم العطش ، أم الحر ، أم الموت . ومن هنا كان الواجب يحتّم علينا أن نسير خلف القافلة لكي ننجي ضيوف بيت الله الكرام من الهلاك في الصحراء ، وقد وفّقنا الله ( سبحانه وتعالى ) في هذا المجال ، وإن كان قد لحق بنا الأذى والمعاناة من جرّاء هذه التوقفات المتكررة إلاّ أن كل شيء يهون في سبيل سعادة الإنسان المؤمن لذلك كل ما نقوم به يبعث في نفوسنا البهجة والسرور ، وأثناء سفرنا واجهتنا حادثة عجيبة لا تخلوا من العبرة والحكمة ، إليك أيها القارئ الكريم شرحها: عند وصولنا إلى إحدى المنازل والذي هو في الحقيقة بئر ماء , أعلمونا بأنّ إحدى السيارات فُقدت هي وركابها ولا أثر لهم ، وطلبوا مني معالجة الأمر ، فقلت في نفسي : ليس هناك من وسيلة إلاّ إفراغ إحدى السيارات من ركّابها والعودة بها إلى الوراء للبحث عن تلك السيارة المفقودة ونجدة ركّابها بأي وسيلة كانت ، لأنّه شرعاً لا يجوز التحرّك قدماً إلاّ بعد الاطمئنان على سلامة جميع الركّاب ، فبحثنا بين السيارات عن واحدة قوية للقيام بهذه المهمّة الصعبة لكي لا تقع بنفس المصير ، وبعد الأخذ والرد والتشاور بين الفنّيين والسائقين حول أي من السيارات هي الأقوى ، اتنهى النقاش إلى اختيار إحداها وكانت القادرة على السير فوق الرمال والبحث عن المسافرين المفقودين ، وتبيّن أن هذه السيارة تحت إشراف شخص آذربيجاني من أهالي تبريز يرتدي زيّ رجال الدين ، فتوجّهت إليه قائلاً : أنت تعلم أنّ هناك سيارة قد تخلّفت عن القافلة وفقدت وأنّ جميع ركابها من أبناء وطنك وهم ضيوف بيت الله الحرم ، ويواجهون خطر الموت ، وقد أجمع الفنيون والسائقون أن سيارتك هي المثلى لهذه المهمّة الشاقّة من بين جميع السيارات ، لذلك أطلب منك أن تعطي الأمر لركاب هذه السيارة بالنزول منها بصورة مؤقتة لكي نقوم بأسرع ما يمكن البحث عن أولئك المفقودين ، وكُن على ثقة بأن هذه القوافل لن تتحرّك إلاّ بعد عودة سيارتك والمفقودين سالمين ، ونستطيع الانتظار هنا بالقرب من بئر الماء هذا دون الإحساس بالعطش أو التعب.
يقول سماحة الوالد : عندما قلت للرجل هذا الكلام عربد وأزبد وثارت ثائرته ، وقال : أنا ومن معي من الركاب لا نسمح بذلك فنحن لسنا مسؤولين عن الآخرين إضافة إلى أننا في الصحراء وكل يقول : ” وا نفساه ” ، فكيف النجاة والخلاص؟!
فقلت : يا سيّد يبدو أنّك رجل دين ، ولا يليق بك أن تكون غير مبال بموت مرافقيك من المسافرين ، ويبدو لي أنّك على علم بنهج الأئمة المعصومين ( عليهم السلام ) ، فكيف نستطيع ترك عدد من المسلمين ومن أبناء وطننا وديننا في هذه الصحراء الخطرة يُلاقون الموت وراءنا ، وندير لهم ظهورنا ونذهب ، وأنت دع الدين والإيمان جانباً فهل يا ترى يسمح لنا وجداننا وضميرنا وإنسانيتنا بذلك!!
إلاّ أنّه ومع الأسف الشديد بقي غاضباً وثائراً ، وعند ذلك قام مسؤولوا القافلة بإفراغ السيارة عنوة ، وأعربوا عن استعدادهم للبحث عن المفقودين ، وجلس السائق خلف المقود إضافة إلى مساعده استعداداً للتحرك ، حينئذٍ أمرتهم بالتوقّف وقلت لهم : سأرافقكم .. إلاّ أنّ عددأً من رؤساء القافلة وخاصة المحبّين منهم حاولوا منعي من ذلك ، وقالوا : كيف تريدون الإقدام على عمل خطير كهذا ؟!! إنّ هذا السائق ومساعده هما من أبناء الصحراء ويستطيعون تحمّل مشقاتها وصعوباتها ولكنكم لا تستطيعون قط مواجهة هذا الحرّ المهلك والأخطار المحتملة ، فدع الأمر لهم وبإذن الله ( سبحانه ) سيعودان بالمفقودين.
قلت لهم : ولكن ربّما ذهب السائق ومساعده ولم يقوما بالمهمّة على أكمل وجه وعادا بدونهم فيهلك أولئك في الصحراء ، وإنّني أرى من واجبي الشرعي أن أتحمّل هذه المسؤولية بنفسي وسأعمل جهدي في العثور عليهم لأعود بهم إنشاء الله ( تعالى ) سالمين ، أو أموت في سبيل هذا الأمر ، وفي كلتا الحالتين فالمسألة تبعث في نفسي السرور.
وبعد أن أقنعت الأصدقاء أخذنا كميّة من الماء والغذاء وتوكلنا على الله وعلى ولي العصر والزمان ( عجل الله تعالى فرجه الشريف ) ثمّ انطلقنا، وسرنا ساعات للبحث عنهم هنا وهناك ولكننا لم نعثر على أيّ أثر للمفقودين، عندها قال السائق: قد تعبنا ولم نعثر على أثرهم وربما متنا نحن أيضاً، ولا طاقة لي على السير أكثر من هذا.
قلت لهم : أعزائي اصبروا وصابروا واطردوا الملل والتّعب عنكم ، فلربّما يحدث الفرج إنشاء الله ( تعالى ).
وكنّا نواصل الحديث حتى بدت لنا عصى مرفوعة على هضبة وفي نهايتها قطعة قماش ، فقلت للسائق : انظر إلى تلك الهضبة التي أرى فيها علماً ، ولرّبما هي إشارة من قبل المفقودين ، فأدر السيارة نحوها فربّما وصلنا إلى غايتنا.
وما إن شاهد السائق تلك العلامة حتى تبسّم وقاد السيارة سريعاً إلى تلك الهضبة ، وبعد مسير نصف ساعة وصلنا إلى سفح الهضبة ورأينا أنّ الأمر كما تصورناه ، فقد كان أولئك المفقودين الذين كنّا نبحث عنهم على حافة الموت وهم في شدّة من العطش والتعب واليأس ، وكان كل واحد منهم ينازع النفس الأخير ، وكل في مكان هنا وهناك فوق الرمال ، وكانت حالة النساء والأطفال أسوأ من الجميع ، وما إن شاهدونا حتى نهضوا من فراش الموت بشوق ، ورغم ضعفهم الكبير إلاّ أنّهم استقبلونا بهمّة ونشاط وقبّلوا أيادينا وجباهنا وشكروا الله على ذلك ، وبعد أن قمنا بسقايتهم الماء والطعام قاموا بالركوب في سيارتنا لأنّ سيارتهم تعطلت وهي بالتالي غير صالحة للسير ، ولحقنا بالقافلة عند غروب ذلك اليوم ، وبحول الله وقوّته استطعنا إنقاذ أكثر من أربعين إنساناً والذين كانوا يقصدون حج بيت الله الحرام فهم في الحقيقة ضيوفه ، والحمد لله رب العالمين على ذلك … وقمنا بتوزيع هؤلاء الركاب على متن السيارات الأُخرى وانطلقنا بحول الله وقوته ، وبقي ذلك السيد المسمى بالرُّوحاني عابساً متجهم الوجه ، ولخّصت هذه الحادثة ببيت من الشعر:كم هو جميل أن نضع الإنسان في محكّ التجربة- عند ذلك يتبيّن لنا معدن كل إنسان
هذا غيض من فيض من مواقفه الإنسانية النبيلة ومن تضحياته المشرّفة ، حيث أوقف وقته المبارك في خدمة المرضى والفقراء والمعوزين والمحتاجين والمستضعفين ، وهو اليوم يستمر في هذه المهمّة الإنسانية ويعمل بها في جميع الأبعاد ، وكأنّما كرّس حياته من أجل الإنسانية والدين والمذهب وحسب.
أطال الله بقاءه , وأدام الله عمره الشريف بالعزّة والسلامة ، وجعله ذخراً وعوناً للإسلام والمسلمين بحق محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين ، صلوات الله عليهم أجمعين.
صفحات مضيئة من تاريخ رسالته الانسانية:
في العام (1313 هـ ش) ، والموافق لـ(1934 م) كان والدي الماجد قد سافر إلى مدينة مشهد المقدسة ، وحلّ هناك ضيفاً على المرحوم الحاج علي اكبر آقا باقر زاده ، وكان هذا الرجل من أعيان هذه المدينة ومن المؤمنين الأتقياء فيها ، وكان يعدّ من مقلّدي جدّي الأكبر (رحمة الله عليه) ، حيث أعرب المرحوم باقر زاده لسماحته أنه يوجد في مدينة شيروان ـ إحدى مدن محافظة خراسان ـ عدداً من مقلّدي جدّه الأكبر وهم يتطلّعون منذ مدة طويلة لرؤيتكم واللقاء بكم ، وقد طلبوا منّي أن تكونوا ضيفاً عليهم لعدّة أيام لكي يزدادوا معرفة بخطبكم وتوجيهاتكم ، وأضافوا بأنه لا يوجد في هذه المدينة عدداً كافياً من العلماء ، لذلك فإنّ الأغلبية العظمى منهم ، ليس لديهم معرفة كافية عن الأحكام الشرعية الهامّة ، مّما يستدعي أن تقبلوا هذه الدعوة قربة إلى الله (سبحانه وتعالى) ، وإن هذه الزيارة ستدخل البهجة والسرور على أهاليها إضافة إلى توعيتهم بأُمور الشرع والدين.
وما كان من سماحة الوالد إلاّ أن رحّب بهذه الفكرة وقبل الدعوة ، فتوجّه قاصداً مدينة شيروان ، وقبل وصوله إليها توقّف في مدينة (ناچوق) حيث استقبل بالترحيب الحار من قبل الحاج السيد إبراهيم تاجر باشي الميلاني والذي كان من مريدي جدّنا الأمجد (قدس سره) ، وخلال وجوده في ناچوق التقى بعدد من الأصدقاء الذين علموا بقدومه ، وكان يلتقي بالناس في منزل السيد إبراهيم الميلاني ، وفي تلك المرحلة كان السفر من مشهد إلى ناچوق يتّم بواسطة السيارات إلاّ أنّه من ناچوق إلى شيروان يتّم على ظهور الخيل . فبعد الراحة من عناء السفر لمدة أربع وعشرين ساعة في ناچوق توجّه برفقة أحد رجال الدين الذين كانوا على علاقة وِدِّية معه ، قاصدين مدينة شيروان ، وبعد اجتياز الطريق والوصول إلى المدينة رأوا بأنّ الأصدقاء والمحبّين والمخلصين من شيروان قد خرجوا لاستقبالهم بشوق كبير ، حيث لا يمكن وصف هذا الاستقبال المنقطع النظير ، فقد امتلأت الساحات بجموع المؤمنين الذين أتوا للاستماع إلى خطبه وتوجيهاته الحكيمة ، وأثناء إقامته القصيرة في هذه المدينة بعثت خطبه المصقعة والقوية وتوجيهاته السّديدة والعلميّة والأخلاقية روحاً جديدة إلى تلك الأجواء ، وأيقظت الجميع من السُّبات العميق الذي ألمّ بهم نتيجة لعدم الإطّلاع على الأُمور الدينية والأحكام الشرعية ، وبذلك فقد تعرّف الجميع أكثر وأكثر على هذه الأُمور والأحكام ، وأَمّا أُولئك الذين قد تقاعسوا عن القيام بأُمورهم الدينية أو الذين لا علم لهم بها فانتابهم الإحساس للقيام بمسؤولياتهم تجاه واجباتهم الدينية ، وقام القسم الأعظم منهم بالتوفيق على أداء واجباتهم الشرعية المترتَّبة عليهم ، وكان لوجوده الأثر البالغ في أذهان الناس خلال الأيام القليلة التي قضاها في تلك المدينة ، ولا تزال ذكرياتها باقية رغم مرور السنوات الطويلة ، ولا يزال المسنُّون في هذه المدينة يذكرون تلك الأيام ويتحدّثون عنها بإسهاب ، ويأملون لإحيائها من جديد ، وبما أن عيد الغدير قد اقترب وكانت رغبة سماحته أن يكون في مثل هذا اليوم العظيم بجوار المرقد المطّهر لثامن الأَمة الإمام علي بن موسى الرّضا (سلام الله عليه) ، لذلك فقد ترك مدينة شيروان متوجّهاً إلى مدينة مشهد المقدسة بعد أن مكث بها حالي عشرة أيام ، فودِع من قِبل أهالي المدينة بمثل ما استُقبل به من الودّ والاحترام والتّقدير والتّبجيل ، وسالت الدموع حزناً على وداع هذا العالم الربّاني الجليل ، وكان الذهاب من مدينة ناچوق إلى مدينة مشهد يتّم بواسطة السيارات التي كانت من الطراز القديم بحيث كان هناك حاجز بين السائق والمسافرين ، وكان المتعارف عليه حينذاك أن تجلس الشخصيات المرموقة في مقدّمة السيارة.
يقول سماحة الوالد : وبتوجيه من السيد تاجر باشي الذي يعدّ من أعيان مدينة ناچوق وإشارته باحترام مكانة رجال الدين أجلسوني في مقدمة السيارة بجانب السائق وأجلسوا رجل الدين الذي كان برفقتي على المقاعد الخلفية بجانب المسافرين الذين كان عددهم يتجاوز الأربعين راكباً ، وبعد ذلك انطلقت السيارة وما إن سارت قليلاً حتى بدأت الأمطار تنهمر بغزارة الأمر الذي جعل قيادة السيارة صعبة للغاية لكون الطريق ترابية وغير معبّدة وكثيرة الانحناءات صعوداً ونزولاً ، وكنّا لم نبتعد كثيراً عن مدينة ناچوق حتى سقطت السيارة في إحدى الحفر وخرجت عن سيطرة السائق وغاصت في الأوحال والمياه خارج الطريق ، وبذلك فقد تكسّر الزّجاج الأَمامي للسيارة ، وبذلت الجهد بصعوبَة لكي أُخرج نفسي للخارج ، وبعد خروجي منها فقدت وعي تماماً ، وبعد لحظات استعدت الوعي وسمعت صوت السائق يصرخ وقد توالت بعده صرخات الركّاب ، ووجدتُ نفسي مرمياً فوق الأوحال والمياه فنهضت بحذر ونظرت إلى جسمي فوجدت أنيِّ والحمد لله رب العالمين سالم ومعافى ، وكان هذا برعاية من الله (سبحانه) وعناية من الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) والذي كنت توّاقاً لزيارة مرقده الشريف ، ولم أُصب إلاّ بكدمات وجروح طفيفة في إحدى يديّ حيث كانت تسيل منها الدماء ، وبينما كنتُ على هذه الحالة تذكرت الركاب الذين بقوا محجوزين داخل السيارة حيث كانت صرخات استغاثتهم تصل إلى الأسماع ، فبادرت سريعاً بمعية مساعد السائق الذي كان بدوره قد أُصيب بجروح طفيفة إلى فتح باب السيارة ، حيث رأينا منظراً محزناً فقد كانت أرضية السيارة مغطّاة بالدّماء التي كانت تسيل من الركاب ، فمنهم من كسر ساقه ، ومنهم من جرح رأسه ، ومنهم من كسر يده ، ومنهم من تمزّق صدره ، وأخرجت بصعوبة بالغة رجل الدين الذي كان جالساً بجانب باب السيارة الخلفي ، ورغم إصابته في الصدر فقد ساعدنا بإخراج المسافرين واحداً تلو الآخر . ووجدنا إصابة بعضهم طفيفة الأمر الذي جعلهم يتسارعون إلى مساعدتنا في إخراج بقية الجرحى من داخل السيارة، وكانت الغالبية العظمى منهم يُقيمون خلف الحدود الإيرانية والذين أُخرجوا من الاتحاد السوفيتي السابق إثر الثورة البلشفية وكونهم إيرانيين في الأصل كانوا يرجعون إلى وطنهم الأم إيران، والغالبية منهم مسلمون وفيهم عدد من الأرمن، وشاهدنا بين متاع المسافرين بعض الأسرّة فسارعنا إلى وضعها على الأرض قرب السيارة، ووضعنا المصابين الذين كان عددهم ليس بالقليل على هذه الأسرّة وبذلنا قصارى جهودنا لإسعافهم، وفي ذلك الحين قال لي رجل الدين الذي كان يرافقني:
إنّ بالقرب منّا توجد قرية ومن الأفضل الذِّهاب إليها والاستراحة فيها وسنسافر في صباح يوم الغد بأيّ وسيلة أُخرى إلى مدينة مشهد المقدسة..
قلت: ما هذا الكلام ؟! هل نُبقي رفاقنا في السفر يتألمون وحدهم ومازالت دماءهم تسيل وهم في شدّة من الجوع والعطش والبرد ونذهب نحن لنرتاح ؟! إنّ من العجب وأنت في هذا الموقع الحساس ولا تفكّر إلاّ بنفسك ! صحيح أننا جميعاً متعبون وهذه الشمس تميل للغروب والسماء تمطر ونواجه في كل لحظة خطراً إلاّ أنّنا إن لم نستطع الاطمئنان على سلامة هؤلاء المسافرين فإننا لا نستطيع التفكير بالراحة بتاتاً.
قال: سيدي إنّ عدداً من هؤلاء الجرحى من الأرمن المسيحيين، ولسنا المسؤولين عن حياتهم.
قلت له: مع الأسف، فإنّ كلامك هذا غير منطقي كما هو كلامك السابق، فهؤلاء سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين فهم بشر مثلنا، وإنّ ديننا الحنيف ينظر إليهم سواسية، حتى انّه يجب علينا تحمّل المسؤولية إزاء الحيوانات، وبموجب التّعاليم السامية لأَئمتنا الأطهار (عليهم السلام) فإن كل إنسان واجب عليه إذا رأى كائناً حياً سواء كان إنسانا أم حيواناً وهو يواجه خطراً فما عليه إلا أن يُسارع إلى مدّ يد العون والمساعدة إلا إذا كان ذلك الشخص الذي يواجه الخطر مضرّ ومهدّد للمجتمع ففي هذه الحالة فإنّ هناك واجبات أُخرى تترتّب عليه، ولكن في هذه الحالة يجب علينا بذل قصارى جهدنا لأجل إنقاذ هؤلاء ورفع المعاناة عنهم وإيصالهم لمكان آمن، ولهذا فلا تُضيّع الوقت سدى ولنذهب إلى تلك القرية لطلب النجدة ومساعدتنا في إخراج هؤلاء الجرحى من وسط هذه الأوحال والعراء والبرد.
وفي الحقيقة عند وصولنا إلى تلك القرية هرع أهلها لمساعدتنا بما يملكون من خيل وبغال وقاموا بنقل الجرحى والمصابين إلى المقهى ، وبادرت فوراً إلى إعطاء مبلغ من المال لصاحب المقهى لأجل شراء الخبز والطعام واستأجرنا منه بعض الغرف لإيواء المسافرين الجرحى فيها . وبعد نقل المصابين إلى القرية وتناولهم الطعام والشراب عادت الروح إليهم ولكنهم ظلّوا يتألّمون ويتأنّون من جراحهم ، واستدعينا أحد المجبّرين للكسور العظمية في القرية لتجبير عظامهم ومداواة جراحهم الأمر الذي ساعد على استقرارهم بعض الشيء ، وحينها لاحت تباشير الصباح ، وبعد أداء صلاة الصبح وتناولنا لبعض الخبز والشاي قال لي ذلك العالم ورجل الدين : سيدي لقد انتهت الآن مسؤوليتنا وأوصلنا المسافرين إلى مكان آمن ، وحان الوقت لكي نستقلّ سيارة ونغادر إلى مشهد.
قلت له : لتعلم أنني لن أتحرّك بدون المسافرين إلى مشهد ، فنحن ملزمون بأخذهم معنا إلى مشهد لأن غالبيتهم من الغرباء المصابين ، والبعض منهم لا يملك أجرة سفره ، وهم في الحقيقة ضيوف الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ويجب علينا إيصالهم إلى تلك المدينة المباركة وإدخالهم إلى إحدى مستشفياتها.
قال : إنّ هذا اليوم يوم عيد الغدير : والسيارات المتوجِّهة من ناچوق إلى مشهد غير خالية فكيف يتسنّى لنا مع ضيق الوقت هذا ، وفقدان السيارات نقل هؤلاء المصابين إلى مشهد.
قلت : إنّ السيارات القادمة من مشهد إلى ناچوق غالباً ما تكون خالية من الركاب ، ونستطيع طرح هذه المشكلة على أحد أصحاب هذه السيارات.
وفي الأخير أوقفنا سيارة قادمة من مشهد ، وتحدّثنا مع السائق حول الحادثة المؤسفة ، وكان رجلاً طبياً فأرشدنا قائلاً : تستطيعون طرح هذا الموضوع مباشرة مع الشركة المسؤولة عن نقل الركاب ، وهي قانونياً مسؤولة عن تأمين سيارة أُخرى لنقلكم ، وإذا ما أعطتني هذه الشركة الأجر التي أعطاها للسيارة التي وقع لها الحادث فإني سأنقلكم راضياً بأسرع وقت إلى مشهد المقدسة.
هذا عرض موجز لصفحة من تاريخ الرسالة الإنسانية النبيلة لهذا العالم الجليل المحبّ للإنسان والإنسانية ، الذي لم يفكر وهو في قمة المعاناة بنفسه بل في أبناء جنسه فقط ، وبسعيه الحثيث وجهوده الخيّرة استطاع نجاة وإغاثة هؤلاء المصابين من ورطة خطرة ، وكان البعض منهم على وشك خطر الموت المحتم ، وبذلك أضاف صفحة ذهبية ومشرفة أُخرى إلى صفحات تاريخه المبجّل والناصع.
الحزم المقرون بالرأفة مع الأُسرة:
كان ذلك العالم المعظّم ومع كلّ تلك المحبة والرأفة والتسامح على الدوام جازماً ومتشدداً إزاء حقّ الله والناس ، وبالأخص بين أبناء أُسرته ، فهو لا يتغاضى النظر عن أقل الأخطاء ، ولا يتسامح في أداء الفرائض والواجبات الدينية والأخلاقية والاجتماعية ، وإذا اقتضى الأمر أيضاً فإنه يحلّ المشاكل بالتي هي أحسن عن طريق الموعظة الحسنة ، وإذا اقتضى الأمر أيضاً فإنّه يطبق حدود الله فيما يتعلق بحق الله والناس على مختلف أفراد أُسرته وأقربائه ، وبفضل الله (سبحانه) فإنّه من ناحية العمل بالشرائع الدينية المقدسة ، وأُسس العقيدة الشيعية الاثني عشرية ، ومكارم الأخلاق ، وخاصة الانحياز للفقراء والمساكين ورعاية اليتامى والمحتاجين ، وتعظيم شعائر الله ، والمواظبة على حضور المجالس الدينية ، ونشر فضائل ومناقب وأحكام أهل البيت (عليهم السلام) ، وسائر المزايا الإسلامية والإنسانية النبيلة ، فقد وهبه الله عائلة مهذّبة ومنظمة ومؤمنة ، وذات علم وعمل ، أسرة متّحدة متضامنة مع بعضها ، ولأجل ترسيخ الذكريات الخالدة لوالدهم الماجد سماحة الإمام المصلح (قدس سره) والتي هي خدمة الدين والإنسانية كانت أُسرة قَلَّت نظيرها بل لا مثيل لها ، والحمد لله رب العالمين. ونأمل من الأجيال المقبلة من أفراد هذه الأُسرة الأصلية التي خدمت ولمائتي سنة المرجعية ، وقامت بالإرشاد الديني والأخلاقي في أوساط العرب والعجم ، أن تسير كذلك على نهج الأُسرة الحالية في الحفاظ على الأخلاق الحميدة ، والأُسس الإسلامية والإنسانية في كافّة أبعادها دائماً وفي كل الأحوال ، لتكون أعمالها وأقوالها مستمدّة من هدي الله السميع البصير ، ومن والدهم العطوف الذي هو منبع للإيمان والتقوى والعلم والعمل والأخلاق ، وعليهم منع دخول كل ما هو غير شرعي وإسلامي ، وبالأخصّ ما يمتّ بصلة إلى الثقافة الغربية المبتذلة وما تجلبه من دمار وخراب على الأخلاق الإنسانية ، ومنع كل من يحاول الإساءة إلى الدين الإسلامي تحت ستار التشريع والتلّبس باللباس الديني من الدخول إلى أوساط هذه الأُسرة التي حملت الأمانة الكبيرة لأهل البيت (عليهم السلام) لمدّة قرون حيث كانت هذه الأُسرة ومازالت شجرة طيبة ومباركة ، نشرت العلوم الدينية والفضائل الأخلاقية الحميدة بين المسلمين من محبّي أهل البيت (عليهم السلام) ، وليكن من بينهم وفي كل مرحلة وزمان أفراداً طاهرين قديرين محترمين كأسلافهم يعملون دون كلل ولا ملل من أجل إظهار الحقّ الحقيقة في جميع أبعادها ، يسيرون على هدي الرسول الأعظم وكتاب الله المجيد وأهل البيت (عليهم السلام) ، وأجدادهم الغرّ الميامين الذين أصبحوا فخراً وعزاً لهذه الأُسرة الطيبة في نشر علوم آل بيت (عليهم السلام) ، وكتابة الكتب ، وخدمة الناس ، والانحياز إلى المعوزين والمحتاجين والمستضعفين ، والتمسّك بالزهد والتقوى والفضيلة ، والابتعاد عن اللهو واللعب والكسل ، ورفض التَّحيُّز والركون إلى الظالم والاستبداد ، وكل الأمور البعيدة كل البعد عن الشريعة السمحاء ، والله هو الموفّق وهو حسبنا ونعم المولى ونعم النصير.
المرجعية:
بعد الفاجعة الكبرى التي ألّمت بنا إثر عمنا سماحة آية الله العظمى الحاج ميرزا علي آقا الإحقاقي الحائري (رضوان الله عليه) ، والتي صادفت في (27 ـ رمضان ـ 1386 هـ . ق) بالسكتة القلبية ، وذلك بالحسينية العباسية بالكويت ، وما إن شاع الخبر حتّى عمّ الحزن جميع أفراد العائلة ، وكلّ المحبّين والأصدقاء والمريدين ، وحتى الأجانب ، وقد أُقيمت مجالس الفاتحة على روحه الطاهرة بالشكل الأمثل في جميع المناطق التي تُدين بالتقليد لذلك العالم الجليل ، وقد شارك في العزاء جمع كبير من الناس يعتصر قلوبهم الألم وتذرف عيونهم الدموع ، وكان آنذاك والدي الماجد يسكن طهران ، وما إن وصله النبأ المفجع حتى قدم بالسرعة الممكنة إلى مدينة الكويت ، حيث كان ينتظر قدومه أهالي الكويت وجمع غفير من مناطق سواحل الخليج ، ومدينة الإحساء ، ومجموعات كبيرة من المقلّدين القاطنين في العراق يرافقهم العلماء الأفاضل ، والوعّاظ الأماجد ومعتمديهم الذين جاؤوا للمشاركة في مراسم تشييع ذلك العالم الرَّبّاني والحكيم الصَّمداني ، وما إن قَدِم سماحته حتى بدأت مراسم التشييع بصورة لا توصف ، وتحرّك موكب التشييع إلى كربلاء في العراق ، وبما إنّني كنتُ في تبريز فقد قمت بدوري مع أهالي هذه المدينة بإعلان الحداد ، وإقامة مجالس العزاء على روح الفقيد ، وسمعت من الذين شاركوا في مراسم تشييع ذلك العالم المعظّم بأنّ سيارات التشييع كانت متصلة ببعضها من الكويت إلى كربلاء . وقامت الحكومتان الكويتية والعراقية بفتح حدودهما لمدّة ثلاثة أيام لإفساح المجال للمشيّعين والمعزّين لأنه لم يكن من غير الممكن الحركة لكثرة المشاركين في التشييع والقاصدين لزيارة قبره الطاهر ، وكانت المواكب المعزّية تذرف الدموع وتلطم الصدور حزناً على رحيل زعيمهم ومرجعهم الكبير ، وبعد وصول الموكب المهيب إلى كربلاء المقدسة صلّى على الجثمان الطاهر سماحة الوالد الماجد ، ودُفن ذلك العالم العامل في المقبرة الخاصة في حسينية الحائري الشريفة قرب الحرم الحسيني (أرواحنا فداه) ، وما إن انتهت مراسم الدفن حتى أُقيمت مجالس الفاتحة على روحه الطاهرة في تلك المدينة الطيّبة ، فعادت جموع المشيّعين إلى ديارهم في الكويت وأقاموا بدورهم مجالس والعزاء والفاتحة ، واستمرّت هذه المجالس أياماً عديدة في الحسينية الجعفرية وسائر الحسينيات في مدينة الكويت ، وفي اليوم الأخير من أيام العزاء والتأبين صعد الوالد الماجد المنبر لكي يعرب عن شكره وامتنانه العميق لأُولئك الذين شاركوا في العزاء بهذا المصاب الجلل ، وبعد أن حمد الله وأثنى عليه ، وصلى على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وآله الطيبين الطاهرين (عليهم السلام) طلب المغفرة والرحمة لأخيه الأكبر ، ثم شكر أولئك الذين شاركوا في إقامة المجالس التأبينية ، وبالأخص طبقة العلماء والسّادة وأهل الفضل والعلم ، وجميع الحضور ، وبعد ذلك توجه بخطابه إلى الناس وقال : من المؤسف أن انتقل اليوم مرجعكم الكبير بعد سنوات قضاها في خدمة أهل البيت (عليهم السلام) إلى جنّات الخلود وإلى جوار ربّه الأعلى ، مّما يتوّجب عليكم أن تنتخبوا مرجعاً جديداً لكم لأنّه من غير الجائز أن تبقوا من غير مرجع ترجعون إليه في التقليد بأمور دينكم.
ثم أضاف : وبما أنّني في إيران لديّ أعمال دينية واجتماعية كثيرة ، إضافة إلى تعبي ، لذلك فإنني لا أُفكّر في تسلّم المرجعية ، وأرجو أن تعفوني من هذه المسؤولية الشّاقة وتراجعوا في التقليد إلى شخص آخر ، وبحمد الله وفضله ما أكثر وجود العلماء والأعلام والفقهاء الكرام في كل مكان.
وفي هذه الأثناء ارتفعت فجأة الصيحات المصحوبة بالألم والشجون من فناء الجامع إلى السماء من قِبل الحاضرين ــ وفي الحقيقة كان هذا الاجتماع بمثابة مؤتمر اجتماعي ديني كبير ــ وقالوا بصوت واحد وقلب واحد وبوجه باك ، وهم يوجّهون أيديهم إلى سماحته ويهتفون قائلين : لا نعرف أحداً غيرك ، ولن نقلّد شخصاً آخر غيرك أبداً.
عند ذلك انهمرت دموع الحبّ من عين ذلك العالم العامل ، وللمرة الثانية طلب من الجموع وتوسّل إليهم أن يعفوه من تولّي الزعامة الدينية ، وفي ذلك الحين نهض المرحوم المغفور له الحاج محمد الخرس وهو من أجلاّء وكبار منطقة الإحساء وتوجّه إلى ذلك العالم النبيل قائلاً له : يا سيدنا المعظم لقد امتدّت إليك اليوم أيادي هذه الجموع بقلوب مخلصة وهم من شيعة ومحبّي أهل البيت (عليهم السلام) بأمل المبايعة باعتباركم مرجعاً للتقليد ، وهم ينتظرون من سماحتكم أن تردّوا بالإيجاب وتقبلوا هذه البيعة وتعطوا لهم أملاً معنوياً ، فإن لم تقبلوا دعوات هذه القلوب العامرة والمفعمة بالإيمان والآمال فإنّنا نقسم بالله العلي العظيم بأن نبقى من دون تقليد إلى آخر يوم في حياتنا ، وسنحمّلك المسؤولية يوم المحشر عند الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
عند ذلك عمّ النحيب والبكاء الجامع وجميع الشوارع والأزقّة المجاورة التي تكتظ بالناس ، وكان القائد الديني الكبير ومن حوله المريدين والمخلصين يذرفون الدموع أيضاً ، وقد سيطرت على الموقف هالة من الحزن والصفاء الديني ، وكأنّما حضرت ملائكة السماء لتشهد على هذا المنظر الجميل الوقور والمليء بالمحبّة والإيمان والإخلاص ، وعندئذٍ وبعد أن أعلنت الجموع البيعة لقائدهم وزعيمهم ومرجعهم المحبوب الجديد والذين حملوا محبته في قلوبهم لسنين طويلة ، وكان صغيرهم وكبيرهم يعلم علم اليقين بمكانته المعنوية وحكمته وفقهه ، وبالأخصّ إصلاحاته الكبيرة والمفيدة ، فقبّلوا يديه وأخذوا يغادرون المجلس بهدوء إلى بيوتهم وديارهم ومدنهم ، وقلوبهم مطمئنّة لما قاموا به في هذا المجلس التاريخي العظيم.
وأمّا في آذربيجان وبالأخص في مدينة تبريز وما حولها من القرى والأرياف ، والذين كانوا يقلّدون سماحة عمّنا المعظّم (قدس سره) ، وفي أول مجلس عزاء انُعقد على روح ذلك العالم العامل ، ولما لديهم من معلومات كافية عبر سنوات خلت عن مكانة الوالد الماجد الرفيعة في العلم والعمل والتقوى ، ورعاية الأُمور المرجعية ، لم يتوانوا لحظة واحدة في إعلان تقليدهم منه ، فقد أَعلن العلماء الأعلام هذا النبأ فوق المنابر والمنصّات الخطابية ، وقبّلوا أيادي كاتب هذه السطور باعتباره نائباً لذلك العالم المعظم الذي أعلنوا تقليدهم منه ، ثم توالت البيعة من مناطق طهران ومشهد وباكستان وغيرها من المدن عبر الرسائل والبرقيات معلنة ولاءها لتقليد هذا الزعيم العظيم ، وبقيت هذه البيعة مستمرّة من قبل كافة المناطق الآنفة الذكر من العرب والعجم وبشكل واسع حتى كتابة هذه السطور.
هذا وقد طبعت رسائله العملية إلى عدّة لغات عالمية ، منها : العربية ، والفارسية ، والاوردية الباكستانية ، والإنكليزية ، والفرنسية ، وبأعداد كبيرة جداً ، ووضعت تحت تصرّف مقلّديه المقيمين في البلدان المختلفة الإسلامية منها والغربية ، فأطال الله عمره الشريف ، وجعله ذخراً وعماداً للإسلام والمسلمين الموالين لأهل البيت المعصومين (عليهم الصلاة والسلام).
العبد الصالح .. والإمام المصلح:
بعد استقرار مرجعيته واتّخاذ الكويت مقراً لإقامته لاحظ سماحته اختلافات عميقة بين مذاهب تلك الديار ، حيث مع الأسف الشديد كانت تصل الأُمور فيما بينها إلى مراحل خطيرة في بعض الأحيان بحيث تُلحق الإهانة لبعض الأفراد والشخصيات ، وتؤدي ذلك إلى قطع صلة الرحم ، إلاّ أنّ الوالد الماجد ومن خلال تلك السجايا العلمية والأخلاقية التي منحها الله له استطاع أن يتغلّب على تلك الخلافات ، ويُبعد التّفرّق والتّفرقة فيما بينهم ، وعمل على معالجة النفوس والقلوب وبثّ المحبّة بين الأطراف المتخاصمة ، وإزالة العداوة والبغضاء فيما بينهم ، وأضفى عليهم جواً من الهدوء والمحبّة والوفاء والسلام والصفاء ، وبتوجيه وعناية من الله العلي القدير ، وبتدبير من هذا المعلّم الكَبير والعلم الشّامخ فقد حلّت اليوم الأُخوة والتعاضد والوحدة والتجانس الإسلامي بين جميع الطبقات والطوائف حتى بين الشيعة وإخوانهم السنّة ، حيث يعتبر الجميع هذا العالم العلم أباً روحياً لهم ، وقد صحّت المقولة القائلة : (بالمحبّة تصبح الأشواك ورداً) ، وأصبحت أجواء الكويت اليوم من الناحية الأخوية والمعنوية ، وبالأخص تقديم العون إلى المحتاجين والفقراء والمعوزين وجميع المحرومين في هذا العالم ، وبناء وتشييد المساجد والحسينيات ودور الأيتام وسائر مؤسسات النّفع العام ، كبستان جميل وحديقة مثمرة وغنّاءة امتدّت أغصان أشجارها المباركة إلى جميع أنحاء العالم ، وكلّ ذلك بفضل جهود هذا العالم العامل وجهاده الذي لا يعرف الكلل ولا الملل ، بحيث يعجز القلم عن شرحها ، ولذلك فقد لُقِّب من قِبل العلماء والرِّجال الأجلاّء في تلك البلاد العامرة بـ(العبد الصّالح والامام المصلح).
مؤلّفاته:
إنّ القلم عاجز من الخوض في تأليفاته القيّمة وحصر مؤسساته الدينية والاجتماعية وأذكر هنا بعضاً من هذه التأليفات.
والجدير بالذكر أنه لولا توجّهاته الليلية والنهارية نحو الإصلاحات والمنشآت والمساجد المختلفة شرقاً وغرباً ، ولولا أنه قد أوقف وقته الثمين لخدمة المؤمنين ولآلام المجتمع والمستضعفين في العالم ، لكنّا رأينا اليوم الكثير الكثير من المؤلّفات القّيمة والثمينة لهذا العالم الزاهد ، والمفكر العملاق ، فمؤلفات سماحته (قدس سره الشريف) قليلة بالنّسبة إلى توجهه في الإصلاح . ولكن مع ذلك فإنّ هذا القليل والنذر اليسير أثرى وأخصب وأينع الفكر الشيعي ، علماً بأن هذه التأليفات قد طبعت مرّات عدّة ، بعدّة لغات منها الفارسية والعربية والانكليزية والأُردية ، ونُشرت ووزعت على كافة الأقطار والبلاد الاسلامية ، ومنها :
1. (أحكام الشيعة) : رسالته العملية ، والتي تجمع الفصول الفقهية بنحو سلس وبسيط ، كُتبت بقلمي ، وبتأييده وإشرافه واجازاته.
2. (رسالة الانسانية) : باللغتين الفارسية والعربية ، في الأخلاق.
3. (رسالة الإيمان) : كتاب يردّ فيه على دعاوى الكسروي ، دفاعاً عن الحق والحقيقة ، كما أنّه يدور حول بحوث التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد ، وفي إثبات حقيقة التشيع ، والدفاع عن الطائفة الأمامية ، وقد طبع بالفارسية مراراً ، وعرّب وطبع ، كما ترجم إلى الأردية ، وأما الانكليزية فطبع منه ثلاثون ألف نسخة في أمريكا ـ سان فرانسيسكو ـ ، كما نشر في المكتبات العامة بأمريكا وأُوربا وأفريقيا وآسيا.
4. (الدين بين السائل والمجيب) : وهو يمثّل ردّه على الكثير من المسائل الواردة عليه من كل مكان ، بالجواب الشّافي والمفيد ، وقد طبع في الكويت في ستة أجزاء ، وفي بيروت في مجلّدين عام (1992 م).
5. (منسك الحج) : وفيه ما يهمّ الحاج في مكة والمدينة.
6. (منظرة الدقائق).
7. كتاب (تفسير المشكلات من الآيات) : وأودع فيه تفسير بعض الآيات الصعبة بأوضح بيان ـ مخطوط.
8. (منهج الرشد) : ردّ على (إزالة الغي) ، (فارسي).
9. (سرمايه سعادت) : وهي رحلة من كربلاء إلى خراسان (فارسي).
10. (أُصول الشيعة) : كتاب يحوي شرح أصول الدين الخمسة طبع مفرداً ومقروناً برسالته (أحكام الشيعة).
11. (حاكم عدل) : رد على كتاب (شاهد صدق) ، مخطوط.
12. ترجمة وشرح (الرسالة التطهيرية) : لوالده (أعلى الله مقامه).
13. قصائد ومدائح في فضائل ومراثي المعصومين (عليهم السلام) . ويذكر أنّ سماحته يفتخر بين كل تلك القصائد العصماء التي أجاد بها قريحته بالقصيدة التي ألقاها في المقام المطهر لثامن الأئمة الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ، وهو يخاطب الإمام ولي العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه).
14. (رسالة في القِبلة) : وألّفها في أوان بلوغه ، وهي رسالة مفصّلة جعلها في دائرة عظيمة ، وصوّر الكعبة المشرّفة في وسطها ، وسائر البلدان حولها وأطرافها ، وعيّن قبلة أكثر بقاع الأرض ورؤوس جبالها ، وبطون أوديتها وبحارها وأنهارها ، ومقدار انحراف كل منها إلى أيّ جهة من الجهات الأربع ، بحيث إذا جعلتها على الأرض وطبقت كل جهة معلومة منها إلى الجهات الحقيقية ، ووقفت بإزاء أيّ بلدة تريدها ، وتوجّهت إلى تلك الكعبة المصورة كان وقوفك إلى القبلة الواقعة من غير شك ولا تردد.
ولقد أشار المرحوم المقدّس الميرزا علي الحائري الاحقاقي (أعلى الله مقامه) إلى هذه الرسالة في رسالته العملية (منهاج الشيعة) ، ومّجد حسن نظامها وسهولة مأخذها ، وقد أثار أيضاً إعجاب والده المقدس (أعلى الله مقامه) بهذه الرسالة الفريدة من نوعها في هذه السن المبكرة التي قلّما تفرز مثل هذا الإنتاج العظيم.
وكان سماحته (قدس سره) نابغة في الفلك ، ومولعاً به إلى حدٍ كبير . وهذا الذي جعل مسائل القبلة في رسالته العملية (أحكام الشيعة) أكثر شمولاً وتفصيلاً عن باقي الرسائل العملية لعلمائنا الأجّلاء (رحم الله الماضين منهم وحفظ الباقين) ، آمين يا ربّ العالمين . وكان لهذا النبوغ السبب لجعله محلّ ثقة والده ، وجميع الأفاضل حوله ، لتحديد القبلة لهم في أيّ بلد وردوا فيها ، من غير مطالبته بدليل ، لثقتهم باطلاعه ، وعظمته وإحاطته.
ويتحدّث الوالد الماجد (قدس سره) علّة نظمه للقصيدة التي أنشدها في الصحن المطهر للإمام الرّضا (عليه السلام) مخاطباً فيها صاحب العصر والزمان فيقول لي : في الأيام التي كنت فيها صغيراً ، وكانت السياسة والإعلام الديني والخدمات المذهبية في إيران محدودة كلياً ، وتحت إشراف ونظر عدد من الأفراد الفاسدين والفاقدين للصلاحية ، وبعد أن رأيت أن محيط (أسكو) وتبريز صغيراً وضيّقاً ولا يتّسع لآمالي الواسعة في سبيل خدمة الدين وشريعة سيد المرسلين ، ونشر فضائل ومناقب أهل بيت العصمة (عليهم السلام) السامية ، ولذلك اتّجهت بنيّة الزيارة إلى مرقد ثامن الأئمة (عليه وعلى آبائه وأبنائه الطيبين الطاهرين آلاف التحية والثناء) ، ثم الخروج من إيران والسفر إلى الهند التي كانت حينذاك من إحدى المراكز الهامة لخدمة الدين ونشر الشعائر الإسلامية ، فقصدت مشهد تلك الأرض المقدسة التي هي ملجأ الذين لا ملجأ لهم.
بعد أن ينقل لي سماحته هذه القصة المحزنة يضيف ويستمر قائلاً : آنذاك كنتَ وأخاك أحمد صغيران وعليلان ولكنني كنتُ مضطراً لإرسالكما إلى مدينة كربلاء المقدسة لتبقيا هناك عند أسرتنا ، لكي أتفرّغ لمصيري المبهم ، وكنتُ بدوري مريضاً ومعوزاً يساورني القلق حول مستقبلي المجهول.
ثم تنهّد سماحته وقال : كنت في يوم من الأيام جالساً في الصحن المطّهر لمولانا الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) مقابل القبّة المطهرة ومتوجهاً نحو القبلة واليأس يعتريني بالكامل ، وفي الوقت الذي انقطع فيه رجائي من الجميع ، وكنتُ غارقاً في بحر من الأفكار سمعت هاتفاً أيقظني من تلك الحالة اليائسة فأخذ قلبي يخفق وينبض سريعاً ، فخاطبت نفسي قائلاً : إن لك إماماً عطوفاً كالإمام ولي العصر صاحب الزمان (أرواحنا فداه) ، وأنت ضيف على امام عطوف كالامام ثامن الحجج (عجل الله فرجه الشريف) . فلِمَ تغرق في بحر من الغمِّ واليأس والحرمان ؟! إنهض فإنّ مستقبلاً زاهراً مضيئاً ملؤه السعادة في انتظارك ..
وفطرياً أنشدت تلك القصيدة التي شرحت فيها وضعي المؤلم ، وخاطبت الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) وقلت له : بأنني آمل وبتوجيهاتك وإرشاداتك ومساعداتك المعنوية أن أصل إلى درجات عالية لأجل خدمة الدين والمجتمع الإسلامي وبالأخص نشر فضائل أجدادك الطاهرين (عليهم أفضل الصلاة والسلام) ، وأعاهدك إن ساعدتني بأن أعمل جاهداً لخدمة الدين ومساعدة شيعتك ومواليك وجميع المحرومين والمستضعفين ، وسأعمل كذا وكذا.
يضيف والدي قائلاً : وان لم تتحقق أمنيتي بالسفر إلى الهند ، إلاّ أنّه بحمد الله وعنايته ولطفه وعناية ومساعدة هذان الإمامان (عليهم السلام) قد وصلت ونلت امنياتي القلبية ، واني لأعتز وأفتخر اليوم بأنني قد وفيت بتلك العهود لساناً وقلبياً وعملاً ومن جميع الجهات التي قطعتها على نفسي تجاهها ، وسأستمر انشاء الله في ذلك إلى آخر يوم من حياتي.
والقصيدة المذكورة منقولة في آخر هذا الفصل ـ بل أنني نقلتها إلى القسم الفارسي من المجلة ، وأما القسم العربي فأنظر إليها في باب شعره (المحرّر) ـ.
رؤيا جميلة وروحية:
حدّثني ذلك العالم الربّاني وقال : في السنة التي قصدت فيها طهران عن طريق آدربيجان بمرافقة أخي الأكبر المرحوم آية الله ميرزا علي آقا الاحقاقي الحائري (أعلى الله مقامه) ، زيارة الإمام ثامن الأولياء (عليه السلام) توقّفت وبإلحاح من الأصدقاء والمحبّين لمدة في مدينة تبريز ، وحللت فيها ضيفاً على سماحة آية الله الميرزا محمد آقا ثقة الإسلام (أعلى الله مقامه) الذي كان يُعدَ من شخصيات آذربيجان الدينية المعروفة ، وكنت في حينها مشغولاً ليلاً ونهاراً في تنظيم كتاب (تنزيه الحق) من تأليف سماحة والدي المعظّم بغية طبعه ونشره ، وكنت أبذل جهدي لكي يطبع هذا الأثر القيّم والذي هو في الواقع ترجمة لكتاب (إحقاق الحق) ، وكان الأصدقاء والمحبّون يقيمون الولائم التي يحضرها عدد كبير من أعيان ووجوه المدينة وما حولها احتفاء بقدومنا ، غير أنّ انشغالي في ترجمة وتنظيم الكتاب المذكور منعني من المشاركة في أيّ من هذه الولائم ، وكنت في غرفتي مستمر بعملي آناء الليل وأطراف النهار ، حتى فرغت من ترجمة هذا الكتاب في إحدى الليالي المباركة ، وبعدها استغرقت في النوم من شدّة التعب ، وتراءى لي في الحلم أنني في غرفة المرحوم والدي المخصّصة للقراءة في كربلاء ، ويحيط بمجلسنا عدد من السادة من أهالي تبريز المحترمين ، ورأيت أخي المعظّم جالساً في طرف المجلس والمرحوم الوالد الماجد على طاولته الصغيرة مشغولاً بالكتابة ، وكان الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) مستديراً القبلة ، ونحن الثلاثة متوجّهين القبلة ، وبقية الحاضرين من أهالي تبريز متّجهين جهة المغرب ، في الوقت الذي كان جميع الجالسين تبهرهم تلك الصورة النورانية ذات العظمة والجلال للإمام (عليه السلام) حيث كان يتحدّث عن مكانته السامية ودرجته الرفيعة الشامخة ، وفي الحقيقة كان مضمون حديثه النوراني حول (أنا عين الله الناظرة ..) ، وكان يتلفظ بكلمات نورانية ودرية ، ويتكلم بحديث نديّ ، وكان متوجّهاً نظره إلى أخي (أعلى الله مقامه) ، ثم غيّر لحن الكلام وتحدّث شاكياً عن اللامبالاة وعدم اهتمام أهالي الديار في تثبيت الدين وبالأخص نشر الولاية وخدمة أهل بيت الإمامة , وكنت أنتظر بفارغ الصبر أن يشملني ذلك المولى المعظّم بنظرة من نظراته الثّاقبة ، وبالأخصّ وأني قد انتهيت من كتابة ذلك الكتاب الذي تتحدّث صفحاته عن إثبات ولاية وطهارة ذلك الإمام العظيم وأولاده النقباء (عليهم السلام) ، ولكن بقيت نظراته متوجهة نحو أخي ، ولم يرفّ له طرف نحو هذا المحبّ إطلاقاً ، عندئذ خاطبت نفسي قائلاً : إذا كنّا نتحدّث كثيراً عن الفضائل والمناقب والدرجات السامية والرفيعة للإمام (عليه السلام) من على المنابر ، وكتابة المؤلفات حوله ، فإن كان حقاً يعلم ما في القلوب ويبصر ما في الضمائر فِلمَ لا يُعيرني اهتماماً بسيطاً ولو بنظرة واحدة منه ، عند ذلك رأيت الإمام (عليه السلام) يقطع حديثه ويتوجّه إليّ بوجه بشوش وشفاه مبتسمة ، وكأنّ عين الله هي التي وجّهته نحوي ، وكأنّ لسان الله الحقيقي هو الذي تحرّك ، وفي الوقت الذي سحرني بوجوده وسيطر على ملكاتي وخاطبني باللغة التركية وقال :
(ميرزا حسن سَنَهْ دَهْ باخْدُخ اوُرَكينْدَه قاْلماسُونْ) أي : (ميرزا حسن نظرت إليك فلا تحملها في قلبك).
وفي تلك اللحظات استيقظت من النوم وذلك الحلم الروحي الجميل . وأنا أبكي وانتحب ، ورأيت نفسي غارقاً في أنوار جمال مولاي ، وفي تلك الساعة كان أخي يُقيم صلاة الليل فسمع ببكائي ، وبعد انتهائه من الصلاة قال لي : ما هذا البكاء ؟! فشرحت لسماحته مضمون رؤياي ، وقلت : وا أسفاه ، ما أردته لم أسمعه منه.
فقال : وماذا أردت أن تسمع ؟..
أولئك الذين يبدلون التراب كيمياءً .. هلاّ حظيت بنظرة منهم ..
لقد شملك الإمام (عليه السلام) بنظرة محبّة وعطف ، ومنحك من كراماته ، وستكون لك عاقبة مشرقة ونيّرة.
وبحمد الله (تعالى) أن تلك النظرات هي كـ(عين الله الناظرة في الأمم) إذا وقفت على النحاس بدّلته ذهباً خالصاً وجواهراً ودرراً ، وقد شملتني هذه النظرة بعطفها ، وبابتسامة جميلة وبشاشة ، بعثت في روحي النشاط والسرور والحمد لله ربّ العالمين.
تأثير النفس والدعاء:
إنّ ما كتبته وسأكتبه عن سماحته في هذا الفصل الخاص به لا ريب فيه ولا شكّ بما كتبت ، وكل من يتسرّب إلى قلبه الشك يستطيع الذهاب إلى الكويت أو الإحساء ، وإن لم يكن بمقدوره فبإمكانه أن يسأل زوّار تلك البلدان الذين يفدون كل سنة جماعات جماعات إلى مدينة مشهد المقدسة أو إلى دمشق ( سورية ) لكي تتّضح لهم المسألة ويُزاح بالتالي عنهم الشك ، وهناك موضوع لابد من توضيحه وهو كالتالي :
إن في الناطق العربية وبالأخص ساحل الخليج الجنوبي ، وفي بعض من مناطق إيران وآذربيجان هناك خطر لغزو سرّ حول النساء الحوامل ، وهو أنّ عدداً من النساء في أشهر الحمل يرين أحلاماً مرعبة ويستيقظن من نومهن وهنّ فزعات مرعبات ، الأمر الذي يسبب في إسقاط الجنين نتيجة لهذه الأحلام المخيفة ، ويتكرّر هذا الخطر والتهديد في المراحل الآتية للحمل أيضاً ، ولدى ذهابهنّ إلى أطباء ماهرين حاذقين وعلماء ودكاترة النفس في الداخل والخارج ، وحتى إلى كهنة الهنود وحكماءهم لم يحصلن على نتائج مرجوة ، مّما يأتين إلى حضرة الوالد المعظم حيث يقرأ عليهن بعض الأدعية المأثورة والآيات الكريمة فيشفين بإذن الله ، وينزاح عنهن هذا الخطر ، ولا تعود تراودهن هذه الأحلام المرعبة المخيفة ، وبالتالي تستطعن الإنجاب وترتفع عنهن حالات الإجهاض وتواجهن أخطاراً أُخرى ، وقد شاع هذا النبأ في تلك المناطق ، فعندما يحدث شيء من هذا النوع لأي من السيدات وإن كنّ في أقصى مناطق تلك البلدان يلتجئن إليه ليباركهن بالدعاء الذي هو عبارة عن آيات مباركات شافيات من القرآن الحكيم ليس إلاّ.
وقد حدّثني سماحته في إحدى الأيام وقال لي : لقد وُلد وبمباركة منِّي عشرة إلى عشرين ألف طفل كانوا من الممكن أن يكونوا في عداد المجهضين ، إضافة إلى مئات من المجانين ومرضى الصرع ، وقد شفاهم الله ببركات دعائي.
إن خصائصه المعنوية ، وملكاته النفسية ، وامتيازاته الأخلاقية كثيرة جداً ، ولا مجال هنا لنقلها جميعاً ، فإذاً الأفضلية الانتقال من هذا الفصل والتّطرّق إلى فصل آخر من خصائص هذا الرجل العظيم.
الأذكار والأدعية:
ومن الأوراد والأذكار المخصوصة لهذا العابد المتهجّد والعالم الجليل التي يقيمها في الأوقات المخصوصة لها دون تعطيل أو تأخير ، وكل من عمل بها وصل إلى نتائج جيدة ونيّرة ، هي كالتالي :
أ. قبل طلوع الفجر الصادق ، وبعد الفراغ من النوافل :
( 110 ) مرّات ( لا حَوْلَ وَلا قُوّة إلا بِالله الْعَلِّي الْعَظِيمْ ).
( 110 ) مرّات ( مَا شَاءَ الله لا قُوَّةَ إلا بِالله ).
( 40 ) مرّة ( سُبْحانَ الله ، وَالْحَمْدُ لله ، وَلا إلهَ إلا الله وَالله أكْبَرُ ، وَلا حَوْلَ وَلا قٌوَّةَ إلا بِالله الْعَلِّي الْعَظِيم ).
ب. بعد صلاة الصبح ، وبعد تسبيح الزهراء ( عليها السلام ) :
( 40 ) مرّة ( سُبْحان الله ، وَالْحَمْدُ لله ، وَلا إلَهَ إلا الله وَالله أكْبَرُ ).
( 100 ) مرّة ( اَللهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ ).
ج. وبعد طلوع الشمس :
( 110 ) مرّات ( لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا بِالله ).
( 110 ) مرّات ( أُفَوِّضُ أَمْري إلَى الله إنَّ الله بَصِيرٌ بِالْعِبادِ ).
( 110 ) مرّات ( تَوَكَّلْتُ عَلَى الله ).
( 110 ) مرّات ( يا غَفُور ، وَيَا رَحِيمْ ).
د. وقبل الزوال :
( 110 ) مرّات ( لا إِله إلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالمِيِنَ ).
( 110 ) مرّات ( لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا بِالله ).
( 110 ) مرّات ( أَسْتَغْفِرُ الله وَأَتُوبُ إلَيْهِ ).
هـ. قبل غروب الشمس :
( 110 ) مرّات ( اللّهُمَّ إلْعَنْ أوَّلَ ظالِمِ ظَلَمَ حَقَّ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وآخِرَ تابعٍ لَهُ عَلَى ذَلِكَ ).
( 110 ) مرّات ( لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا بِالله الْعَليِّ الْعَظِيم ).
و. وفي أيّام الجمعة وبعد صلاة الصبح إضافة إلى الأذكار والأوراد المذكورة أعلاه يقول ألف مرّة ( اَللهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ ).
ز. وفي أغلب الأوقات إذا كان لديه فراغاً يقول ( اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى فَاطِمَةٍ وَأَبِيها وَبَعْلها وَبَنِيهَا ) من دون حساب وتعداد.
ح. في أغلب الأدعية المذكورة يُراجع الكتب المختصة بالأدعية كدعاء كميل ، ودعاء سمات ، ودعاء صباح ، والأدعية المأثورة ، وبالأخص مداومته عليها في شهر رمضان المبارك.
ط. وأمّا السور التي يداوم على قراءتها بعد صلواته الواجبة فهي عبارة عن :
بعد صلاة الصبح : سورة الواقعة ، الشّمس ، الفجر ، ويس المباركة.
وبعد صلاة العصر : سورة عَمَّ ، الشّمس ، والفجر المباركة.
وبعد صلاة العشاء : سورة الواقعة ، الشّمس ، الفجر ، ويس المباركة.
وقبل النوم : سورة الواقعة ، الشّمس ، الفجر ، الجمعة المباركة.
ويتلو يومياً بعد صلاة الصبح جزءاً من القرآن الكريم.
ي. إضافة إلى كل ذلك فإنه لا يترك إقامة النوافل والمستحبات الليلية.
شِعاره:
لقد كان ذلك المعظم ( روحي فداه ) في جميع مراحل حياته المباركة ، ومن ذلك اليوم الذي أتذكّره – كاتب هذه السطور – وإلى اليوم ، كان شعاره يتلخّص بأربع كلمات ، وإذا قمنا بتحليلها نصل إلى نتيجة مفادها أنه رمز للحكم العملية والمروءة والمدارة مع الآخرين ، وسر المحبوبية إلى مولاه ذو الجلال والإكرام ، وقد أحبّه الناس من خلال رؤيتهم له بالعمل قولاً وعملاً للأمور الأربعة الذّهبية والمأخوذة من مدرسة أخلاق رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأهل بيته الطاهرين ( عليهم السلام ) ، ولم أرى هذه الجُمل الأربعة في أيّ كتاب أخلاقي ، وإن كنت قد رأيت وصايا وحكم كثيرة من علماء الأخلاق ( أعلى الله كلمتهم ) حول الحكمة العملية التي هي في الحقيقة علم الأخلاق في مختلف الكتب الأخلاقية ، وقد عمل بمفهوم هذه الجُمل الأربعة والتي جعلها برنامجاً أصيلاً من برامجه.
وتلك الجُمل الأربعة الأخلاقية التي تحتوي على نتائج عظيمة ونيِّرة ومثمرة هي :
1-( أحْسِنْ إلى مَنْ أساءَ إليكَ ).
2-( اعْطي لِمَنْ مَنَعَك ).
3-( اغْفر لِمَنْ ظَلَمَك ).
4-( صلْ لِمَنْ قَطَعَك ).
وأطلب من الله العلي القدير العطاء و التوفيق بالعمل إلى مضمون هذه الجمل الأربعة إضافة بالعمل إلى جميع المضامين والأقوال المُنجية للقرآن الكريم وسيرة المعصومين ( عليهم السلام ) لجميع مسلمي العالم آمين بحق محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين.
والنتيجة النيّرة التي نأخذها من هذا الفصل من حياة هذا النموذج العظيم في العلم والعمل هي أنه كان في جميع مراحل حياته المباركة متلخصاً ببندين اثنين ، وأنّه كان يعيش لتطبيق هذين البندين والأركان الأربعة المذكورة أعلاه ، والبندان الأساسيان هما :
1. نشر أحكام ومناهج وبرامج القرآن الكريم وشريعة سيد المرسلين ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وآثار وفضائل ومقامات الشامخة والرفيعة للمعصومين ( عليهم السلام ) ، إضافة إلى إرشاد وهداية الناس علماً وعملاً لأجل العمل بأركان الشّرع المبين بالحكمة والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن.
2. مساعدة وإعطاء بل والإيثار إلى كل محتاج ومعوز في أيّ نقطة كان من العالم . مسلمين وغير المسلمين ، إنسان أو غير إنسان.
هذه كانت خلاصة مختصرة عن الحياة المعطاءة لرجل عظيم ومرجع قدير ، الأسوة في الأخلاق ، والفضيلة ، والكرامة ، والإنسانية ، والعلم ، والعبادة ، والجود ، والسخاء ، والكرم ، المؤيَّد من عند الله ، العبد الصالح والإمام المصلح ، آية الله العظمى ، مولانا الحاج ميرزا حسن الإحقاقي الحائري الأسكوئي (قدّس سره الشريف) .
وفاته:
وفي السادس عشر من شهر رمضان لعام 1421 هجري الموافق 12/12/2000 تنطفئ شعلة المجد والجهاد والعلم والعمل ليفتح الخلد أبوابه مستضيف ومرحب بأحد الأعلام العظام والمراجع الكرام الذين كرسوا كل لحظه من حياتهم لخدمة الدين والمؤمنين، وهو الأب الحنون والسيد العظيم المرجع الديني الكبير الإمام المصلح والعبد الصالح الحاج ميرزا حسن الحائري الإحقاقي قدست تلك النفس الطاهرة، فقد فقدنا تلك النفس الدءوب لخدمة الإسلام والمسلمين التي طال عمرها الشريف مائة وخمس سنوات.
فالسلام عليك يا سيدي و مولاي يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حيا.