أضواء على حقيقة علة الإيجاد

                                                    أضواء على حقيقة علة الإيجاد

هل الله علة العلل؟ وهل هو بالأصل علة بالنحو الفلسفي للعلة حتى يكون الله علة العلل؟ وهل وردت لفظة علة تسمية على الله سبحانه في الكتاب والسنة؟، وهل العلة بمعنى الخالق، أم بمعنى المادة الموجدة للأشياء من ذاتها؟، كالكرسي من الخشب، والشعاع من الشمس، وهل يلزم من إطلاق لفظ تسمية العلة على الله

بقلم: الشيخ سعيد القريشي حفظه الله
نوع من الإيجاب والتعطيل للذات المقدسة عن كمالها المطلق البسيط؟ والحق يقال إطلاق هذه القضية: إن الله علة، أو علة العلل، لم يستعمل سوى عند الفلاسفة، وهي، أي: هذه القضية لا زالت سارية إلى الآن في المدارس الفلسفية سوى مدرسة الشيخ الأحسائي، وبعض المتأثرين به سراً من العلماء، أي: دون التصريح أن هذا الرأي رأي الأحسائي، أي: أن الله ليس علة بالأصل فضلاً عن كونه علة العلل. لذلك لا يمكن الانطلاق في البحث قبل تحديد تعريف العلة؛ لأن المفاهيم محددات الأفكار، وقاطعة لعرق التأولات بعد ذلك، رغم بساطة مفهوم العلة عند العموم، ولكن البحث يقتضي شروطه العلمية المنهجية.


- ما هو تعريف العلة فلسفياً؟
جاء في المنهج الجديد:{فالمفهوم العام للعلة هو عبارة عن ذلك الموجود الذي يتوقف عليه موجود آخر، وإن لم يكن وحده كافياً لتحققه.

والمفهوم الخاص للعلة هو عبارة عن ذلك الموجود الذي يكفي وحده لتحقق موجود آخر}[ المصباح، محمد تقي، المنهج الجديد في تعليم الفلسفة،ص9]. وهي قسمان: تامة، وناقصة. فالأولى: ما لا يتخلف معلولها عنها.

والثانية: بخلاف ذلك. أحدهما تطلق على كل واحدة من العلل الأربع للأشياء المعروفة التي سنناقشها. ومن ناحية أخرى أنها تطلق على الكل بأنها واحدة من حيث المجموع. وهذه العلل، أي: المجموعة كعلة واحدة للشيء واجبة في كل شيء من كل شيء، فلا يتحقق إلاّ بها، سواء ذاتاً، أو صفة، مادياً، أو مجرداً،....إلخ. وهنا في هذا التحديد لمفهومها، لم يتنازع فيه أحد لكونه شبه بديهي.


من هنا أقول: بعد تحديد تعريف العلة فلسفياً. عندنا تياران يضمان داخلهما عدة مدارس فلسفية: الأول: يقول بتوقيفيّة الأسماء لله، ومنها مدرسة الشيخ الأحسائي التي نتبنى رأيها، وغيرها. والتيار الثاني: يقول بعدم توقيفيّة الأسماء لله، وهم أكثر الفلاسفة. وعلى هذا حتى لو لم يكن هناك محذور في التوحيد: مثل الشرك، والتعطيل، والإيجاب، أي: الجبر للذات المقدسة، فالتيار الأول يرفض إطلاقها، أي: العلة التامة، على الله لكون أسمائه توقيفيّة مبدأ، كما قال الرضا(ع) لسليمان المروزي:{ ليس لك أن تسمِّه بما لم يسمِّ به نفسه}.[ عيون أخبار الرضا،ص167ج2].، ولم يرد هذا الاسم في الشريعة لله قطعاً، بل ورد عكس ذلك منها: كما عن أمير المؤمنين(ع) في خطبته اليتيميّة:{علة ما صنع صنعه وهو لا علة له}. وكذلك جاء في دعاء العديلة:{كان قديراً قبل إيجاد القوة والقدرة، وكان عليماً قبل إيجاد العلم والعلة}. وثانياً: عند الشيخ الأحسائي ملاحظات على كون الله علة ـ أي الذات المقدسة ـ بالمفهوم الفلسفي. وملخص هذه الملاحظات على رأي الأحسائي، ملخصها: 
لو كانت الذات المقدسة علة للمخلوقات، فهنا احتمالان: الأول كونها، أي: الذات المقدسة، علة ناقصة، وهذا يلزم نقص كمال الواجب جل وعز في مرتبة ذاته، وهنا ينقلب الواجب إلى ممكن. وثانياً: لو كانت الذات المقدسة - تنزهت عن هذا - علة تامة، كما الشمس للشعاع، والنار للحرارة، فهذا يلزم

أولاً: إيجاب الذات المقدسة، أي: كون الذات لا تنفك عن معلولها جبراً لها، وهذا ينافي الاختيار والقدرة القديمة للواجب، وهما من صفات الذات.

وثانيا: هذا الإيجاب للذات كونها علة تامة لمعلولها الممكن التي لا يمكنها الانفكاك عنه لكونها تحت الإيجاب، أي: القسر يوجب قدم المخلوقات؛ لأن المعلولات لا تنفك عن الذات، والذات قديمة، وهم معها، فتتعدد القدماء، فينتفي التوحيد، فنبطلها بأدلة التوحيد المعروفة.

وثالثا: يلزم أن تكون الذات في جهة لكون معلولها الممكن في جهة.

ورابعا: يلزم كذلك كون الذات ولدت معلولاتها، كما ولدّت الشمس الشعاع، والنار الحرارة، وهذا ينافي صريح محكم القرآن الكريم حيث قال تعالى:{لم يلد ولم يولد}. أليس هذا صريح الولادة، وهناك محاذير فاسدة كثيرة جداً غيرها.
إذن نخلص إلى أن الذات المقدسة ليست علة بالمفهوم الفلسفي، لا تامة ولا ناقصة. وقد يتسائل بعضٌ، إذن على هذا لا يمكن أن تكون الذات المقدسة علة بالمفهوم الفلسفي، سواء كانت ناقصة، أو تامة. وهذا، أي: رأيكم ينفي كون الله فاعلاً، نقول للمتسائل لا، لا ينفي كون الله فاعلاً، فالله سبحانه فاعل حقيقة لكل أفعاله دون مشاركة من أحد وهذا من صميم توحيد الأفعال، والقائل بغير هذا مشرك، ولكن نقول: الله يفعل أفعاله بدون أن يباشر مخلوقاته ويجانسهم بذاته المقدسة، لأن مخلوقاته في الإمكان وهو في الأزل، فكيف يلتقي الأزل والإمكان في جهة يتباشرون حساً، فهذا قول المجسمة أن لله جسماً ويداً تناسب ذاته المقدسة، كما تعلمون، وهذا ينافي محكم مذهب أهل البيت(ع) في الكتاب والسنة، يعلم هذا حتى العوام فضلاً عن المختصين وطلاب الحوزات العلمية. والذي يخالف هذا يأتي بالدليل من محكم رواياتهم(ع) والكتاب، ودليل العقل. إذن الله يفعل حقيقة، ولكن جهة الارتباط بالمخلوقات الممكنات المفعولات، هو فعله المخلوق الحادث، وأسماء اشتقاقات فعله سبحانه الحادثة، أي: الجهة التي تباشر المخلوقات، هي الفعل المخلوق، كخلق وأمات وأحيى، وغيرها، وكذالك أسماء الفاعل المخلوقة، كالخالق والمحيي، والمميت، والفعل هو مشيئة الله الحادثة، كما هو في رواية الصادق (ع):{خلق الله المشيئة بنفسها، ثم خلق الأشياء بالمشيئة}.[ الشيخ الصدوق، التوحيد، ص148]. هذا صميم التوحيد للقائلين بأن إرادة الله ومشيئته مخلوقتان، كما هو صريح الحديث الثابت عنهم عليهم السلام، وما وقع الآخرون من الفلاسفة في قولهم: الله علة تامة لمعلولاتها إلاّ لما تركوا قولهم عليهم السلام في الإرادة، وكونها هي علة العلل، وهي حادثة وليست قديمة، ومثال فكرتنا الحكمية، هو،كما يقول البلاغيون: (أنبتَ الربيعُ الزرعَ)، فهل الربيعُ هو الذي أنبتَ الزرعَ، أم الله؟، يقول البلاغيون: هنا إسناد للفعل لغير فاعله الحقيقي، الذي هو الله، وما الربيع سوى فاعل مجازاً بالمجاز العقلي، الذي هو إسناد الفعل لغير فاعله حقيقة، هنا يأتي التساؤل هل الله سبحانه بذاته أنبتَ الزرعَ، أم الربيع، هو الذي باشر عملية الإنبات للزرع بمدد الله؟ وما كان الربيعُ سوى فاعل مجازاً وسبباً وواسطة في الخلق حسيَّة مسانخة للمفعول، الذي هو الزرع، نقول: الله منزه أن يباشر المخلوقات بذاته، لذلك سبب الأسباب لتباشر الصنع بإرادته حقيقة لا بمباشرته بذاته المقدسة تنزهت عن ذلك، كما قال الأمير(ع) في دعاء الصباح:{يا من دل على ذاته بذاته وتنزه عن مجانسة مخلوقاته، وجلَّ عن ملائمة كيفياته}. إذن الله هو الفاعل لأفعاله كلها حقيقة لا مجازاً، ولكن لما كان منزهاً عن مباشرة المسببات الممكنات سبب الأسباب من سنخيّة المسببات، أي: من طبيعتها لتلائمها، والذات المقدسة لا تسانخ المخلوقات الممكنات إلا على رأي المجسمة، كما يرون الله يوم القيامة على قولهم، وهنا ومن جهة أخرى بعض فلاسفة الشيعة قدس الله أسرار الماضين منهم وحفظ الباقين، وهداهم الله لترك مقولات وبراهين الفلسفة النظرية غير البديهية التي منها: (نظرية الممكنات كانت في الذات بنحوٍ أشرف دون تكثر)، والتي يفهم منها شيئاً من السنخيّة للممكنات، فالتوحيد النقي السليم هو الاعتقاد أن الله هو الفاعل الحقيقي لأفعاله ولكن لا يباشر الممكنات، لذلك يسبب الأسباب في الخلق والصنع، فعلى هذا الفاعل مجازاً للخلق هي مشيئة الله الفعلية، والله هو الفاعل حقيقة بلا كيف، لأنا لو علمنا الذات كيف تفعل فعلها، وصلنا الأزل وصرنا نحن والأزل واحداً. فالمشيئة المخلوقة عند أهل البيت(ع) والأحسائي تبعاً لهم(ع)، ونحن كذلك معهم، هي فعل الله وهي العلة الفاعلية المباشرة للخلق مجازاً على نحو المجاز العقلي. هذا في العلة الفاعلية. والسؤال المهم الذي يطرح نفسه إلحاحاً، هل هناك فرق بين الفاعل الحقيقي، والعلة الفاعلية مجازاً؟ نقول نعم. فالذات الفاعلة حقيقة هي الله سبحانه بلا كيف وتصور لها وإدراك لأنها الأزل، والأزل لا يدرك بحال ومن هذه الحيثية لا تعدد في الفاعل الحقيقي، فهو واحد، ولا يقع عليه النفي والإثبات، فنقول: فعل ولم يفعل، خلق ولم يخلق، أو نقول: خلق وغير خالق، ومميت وغير مميت. ولا يقع عليه التعدد بتعدد أسماء الفاعل كالخالق والرازق وغيرها، لأنه ذاته المقدسة سبحانه، والتعدد يقع في أسماء الفاعل المخلوقة المشتقة من الفعل الحادث المخلوق الذي هو المشيئة، بالضبط كزيد نقول: هو القائم والقاعد والزارع والماشي والآكل، وغيرها، أسماء مشتقة متعددة من فعله وليس من ذاته، فذاته الإنسانية لم تأكل ولم تمشِ ولم تزرع، بل فعله جهة الارتباط بالمفعول هو المتغير المتبدل، ونشتق منه أسماء فاعل متعددة. على هذا أسماء الفاعل الواردة في القرآن لله كصفات، هي صفات فعلية مشتقة من فعله الحادث لا غير، وهنا يأتي الفرق بين الفاعل الحقيقي والعلة الفاعلية مجازاً والتي هي مشيئة الله الفعلية. وفي العلة المادية ليس الله مادة الأشياء التي خلقت منها خلافاً لأصحاب نظرية (وحدة الوجود) ـ أعاذنا الله من الشرك في توحيد الذات ـ ونظرية (الأشياء كانت في الذات بنحوٍ أشرف)، ونظرية (بسيط الحقيقة كل الأشياء)، من بعض فلاسفة الشيعة رعى الله الباقين منهم، وقدس الله أسرار الماضين، وغيرها من النظريات التي يلزم منها محاذير في التوحيد بأنواعه كثيرة. فإذا كانت الذات لم تلد معلولاتها، أي: لم تكن علة تامة مادية للخلق، فمَن هي علة الخلق المادية، نقول: كما قال الصادق عليه السلام:{خلق الله المشيئة بنفسها، ثم خلق الأشياء بالمشيئة}.[ الشيخ الصدوق، التوحيد، ص148]. فالعلة المادية للأشياء هي مشيئة الله حقيقة لا مجازاً، كما هو صريح قول الصادق ويؤيده صريح القرآن كون الذات ليست محلاً للممكنات ولا تلد على أي نحوٍ من أنحاء الولادة، والأدلة العقلية كثيرة في كتب متكلمي الشيعة، لا أنقلها كي لا أسود عشرات الصفحات في أمور بديهية لكل شيعي جعفري، والعلة الغائية هي معرفة الله، كما هو صريح القرآن:{وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون}. فالعبادة تقتضي عقلاً المعرفة، فلا يمكن أن نعبد من لا نعرف، فالشكر يقتضي معرفة المشكور، وهذا ما أكده الحديث القدسي الشهير:{كنتُ كنزاً مخفياً، فأحببتُ أن أعرف، فخلقتُ الخلق لكي أعرف}.[ الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة، ص193]. فهنا يتضح بشكل مختصر كون غاية خلق الخلق هو العبادة المشروطة بالمعرفة الحقّّة لله من أبوابه محمد وآله، وهي العلة الغائية والعلة الصورية للخلق في التفسير الظاهر البسيط، هي قبولهم كينوناتهم التي طلبوها اختياراً من الله بلسان استعدادهم، وسعة قابلياتهم حين خلقهم تفضلا منه سبحانه مجازاً، وحقيقة قبولهم التوحيد لله وولاية محمد وآله سبباً في تصويرهم بصورهم حقيقة، فهذه اختارت أن تكون سماء وتلك أرضاً، وتلك شجرة، وهذا إنسان وذاك حيوان، فالله ليس بظلام للعبيد، لأنه لو خلقهم كما يقول بعضٌ بالجبر منه لهم في بداية الخلقة لهم، لكان جابراً لهم في الإيجاد من العدم إلى الوجود، وهذا ينافي عدل الله المطلق في كل شيء حتى في بداية خلق المخلوقات، وهذا البحث في هذه النقطة حصراً بحث طويل ومسائله كثيرة وله علاقة بنظرية الاختيار المطلقة للمخلوقات عند الشيخ الأحسائي التي يطول الكلام عليها، نفرد لها بحثاً مستقلاً في المستقبل إن شاء الله تعالى. لذلك هنا استعرضنا الفكرة فقط . إذن علة تصور صور المخلوقات في شكلها المميز لها عن غيرها، هو اختيارها لذواتها بطلبها، أي: الموجودات ذواتها من الله باختيارها مجازاً، وقبولهم التوحيد لله وولاية محمد وآله، أو رفضهما حقيقة. وهو السبب الذي يشكل قربهم وبعدهم من المبدأ للخلق.
ونعود لبحث هل الله علة مادية تامة للخلق؟

فقد يأتي مستشكل ويقول، النظريات التي أوردت وكونها تخالف التوحيد، وهي نظرية الممكنات كانت بنحوٍ أشرف في الذات، وبسيط الحقيقة كل الأشياء، والله علة تامة للخلق، كلها أنت لم تفهمها، لكون كل هذه النظريات، ليست بالحمل الأولي ولا المتعارفي، بل بحمل الهوهويّة، ويقصدون بحمل الهوهوية، هو الحمل الذي يفترض العقل فيه أن الموضوع هو المحمول، والمحمول هو الموضوع، دون فرق، كما نقول "الله عالم" بعلمه الذاتي، فهنا الموضوع، أو المبتدأ في النحو، والمحمول الذي هو الخبر في النحو، هما شيء واحد، بمعنى قل: ذات، قل: علم، أي: الذات هي العلم في رتبة الذات، والعلم هو الذات في رتبة الصفات الذاتية، ونحملهما على بعضهما فقط للتفهيم، وإلاّ الذات لا تتركب من موضوع ومحمول وهي غير محتاجة لمحمولها ليخبر عنها، وهنا لا تكثّر في الذات بهذا الحمل من موضوع ومحمول، أي: لا ينافي بساطة الذات المقدسة المجمع عليها في القرآن والسنة عند أهل البيت(ع) فجملة بسيط الحقيقة كل الأشياء، هنا لا تلزم تكثر في الذات بسبب الأشياء، لأن القضية واردة على صيغة حمل هوهو، فالأشياء هنا هي الذات بلا تكثر، والذات هي الأشياء بلا تكثر وكذلك نظرية الأشياء كانت في الذات بنحوٍ أشرف، فهي، أي: الأشياء في الذات، هي الذات بلا تكثر، والذات هي الأشياء بلا تكثر، وهنا تأتي نظريتهم الأخرى معطي الشيء غير فاقد له في ذاته، لأن عندهم الذات هي العلة المادية للأشياء، ولكن كانت معلولاتها فيها بنحوٍ أشرف، كما في حمل الهوهويّة، أي: هي الذات بلا تكثر، وكذلك نظريتهم معطي الشيء غير فاقد له في ذاته ولكن بنحوٍ أشرف، فكل كمال وهبته الذات المقدسة التي هي العلة التامة عندهم لمعلولاتها الممكنات الناقصة بسبب التكثر والنقصان والإنفصال والحاجة كانت هذه الكمالات في الذات بنحوٍ أشرف، فإذا كانت هذه الكمالات في علة العلل، أي: الذات المقدسة سموها كمالات قديمة، وإذا نزلت هذه الكمالات لرتبة الممكنات سموها حادثة،- أعاذنا الله من هذا الخطل في التوحيد-. فنقول للمشكل على إشكالنا: لا يرد علينا إشكالك لأنّا لا نقصد بالنقد هنا كون الأشياء في الذات على نحو البساطة والتكثر حتى تورد لنا حمل الهوهويّة لحل الإشكال، بل إشكالنا وإشكال الشيخ الأحسائي، كيف تكون الأشياء في الذات حتى لو كانت بلا تكثر كما شرحنا أعلاه في كل النظريات، أي: كيف تكون الأشياء هي الذات بلا تكثر؟ وكيف الذات تكون هي علة مادية للأشياء تامة تجمع كمالات معلولاتها بنحوٍ أكمل؟ وبمعنى بسيط، كيف تكون الممكنات في الذات بلا تكثر؟ فالذات، إمَّا قديمة أزلية منزهة عن الإمكان والممكنات، أو قديمة تجمع الممكنات فيها بنحوٍ أشرف بلا تكثر، وكيف الذات البسيطة ينفصل عنها الممكن، فيصبح ناقصاً متكثراً، وكان فيها بسيطاً لا يمكن ولادته بحال، أو حتى تجليّه منها، الاصطلاح واحد في الفساد؟ فهنا مورد إشكالنا، فتبصر قبل الإشكال. وأنا أنقل لكم نصاً يلخص نظرياتهم ـ قدس سرهم وحفظ الباقين ـ كلها التي ذكرتها لك. يقول آية الله رضا الصدر(قدس) شارح منظومة السبزواري:{العلم بالعقل البسيط: قوله: لبعض أبنا الحقيقة....
وهو عظيم الحكماء الإلهيين صدر الدين الشيرازي(قد).
يعني أن المراد من العلم الإجمالي عند بعض أبناء الحقيقة ليس ما هو المراد منه عند المشائين، بل، المراد أنه وجود واحد بسيط في وحدته وبساطته جميع الوجودات وكل الكمالات، ولكن بنحو اللّف والجمع لا بنحو النشر والفرق، فإن ذاته المتعالية هي أعلى المراتب الكمالية لحقيقة الوجود حال كونه غير متناه في كماله، فهو تعالى كل الكمال وكل الوجود، ولذا كانت جميع الوجودات حاضرة لديه بحضور ذاته لدى ذاته، فذاته المتعالية كمال لتلك الوجودات. ومن المعلوم أن حقيقة الشيء وشيئية الشيء بكماله، إذ النقص خارج عن حقيقة الشيء والشيء غير متقوم بنقصه وفقدانه، بل الشيء متقوم بواجديته، وواجدية الشيء كماله وحقيقته، فالعلم بحقيقة الشيء علم بكماله، والعلم بكمال الشيء هو العلم بنفس ذلك الشيء.
وإن شئت مزيد توضيح لذلك فارجع البصر إلى بعض ما تلونا عليك سابقاً، وهو أن كل علة هي وجود كامل لمعلوله وحد تام له، وكل معلول وجود ناقص لعلته وحد ناقص لها، والبرهان الإني مبتنٍ على الكلية الأولى، والبرهان اللمي مبتنٍ على الكلية الثانية.
ولما كانت العلة هي المعلول بنحوٍ أكمل فالعلة الواحدة بنفس جميع معلولاتها بنحوٍ أكمل وعين لمعلولاتها بنحو اللّف، كما أن المعلولات عين لعلتها بنحو النشر، فهي ظهورات علّتها، فقد ثبت أن العلم بالعلة، هو العلم بمعلولاتها بنحوٍ أكمل.
إذن تكون ذاته المقدسة، العالم كله بنحو أكمل وأشرف، فهو تعالى العالم الأسمى الأعلى، مثلاً إذا فرض وحدة العالم نفساً وإدراكاً، لكان العلم موجوداً واحداً حاضراً عند نفسه ومنكشفاً ذاته لدى ذاته حال تحقق التكثر والتفرق والتباين بين أجزائه، فيكون واحداً بنفسه متكثراً بأجزائه....إلخ}[ صحائف الفلسفة، ص524]. يقول أيضاً في شرح رد السبزواري في دفع إشكال على (بسيط الحقيقة كل الأشياء):{ قوله: يتحاشى عنه العقول الوهمية...
والسر في تحاشيهم زعمهم أن القول بكون بسيط الحقيقة كل الأشياء مستلزماً للقول باختلاطه تعالى بالأشياء الخسيسة، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
ولو كان الأمر كما توهموه في معنى هذه العبارة لكان غلطاً في نفسه، لاستحالة مثل هذا الشيء موجوداً واحداً فضلاً عن كونه بسيطاً، يكون أشياء متعددة وحقائق متكثرة، فالمراد أن بسيط الحقيقة كل الأشياء من حيث الكمال، فإنه الوجود الأشرف الأعلى للأشياء، وهو الوجود المنزه عن الحدود والتعينات والنقائص والفقدانات، والشاهد على ذلك العقد السلبي المنضم لهذا العقد الإيجابي، وهو قولهم:" وليس بشيء منها". أي بسيط الحقيقة ليس بشيء من الأشياء من حيث نقائصها وفقدانتها، واختلاف العقدين بحسب الحيثية يخرجهما عن التناقض}.[ المصدر السابق، ص537].
وربما يعود المستشكل ويقول:لم تفهموا كلامنا، فكلامنا، هو نفس كلامكم، ولكن تعبيرنا يختلف، نقول: أي أنك تقصد خروج الممكنات من الفعل المخلوق الذي هو المشيئة، إذن ناقضت كلامك الأول جملة وتفصيلا، أو تقول: لا، أقصد ما شرحت أعلاه، فتكون محجوجاً بالذي كتبنا أعلاه. فنقول: قولوا بقول أهل العصمة(ع) ترتاحون من هذه المحاذير، وإلاّ صريح كلامكم الغير قابل للتأول، يثبت المحاذير الكثيرة في التوحيد بأنواعه في هذه الأفكار. وهناك رأي للشيخ علي نقي الأحسائي ابن الشيخ الأحسائي. يقول فيه في رسالة مسائل معضلة والكتاب ليس عندي الآن لأنقل الصفحة: إذا كانت الذات المقدسة علة غير اقتضائية، بمعنى لا تستوجب، ولا تقتضي ارتباطها بمعلولها إيجاباً كالشمس للشعاع، والنار للحرارة، يجوز تسامحاً وتأدباً وبمعنى أنه فاعل حقيقة دون جهة ارتباطية سنخية بالمخلوق المعلول الممكن، يجوز تسمية الله علة بهذا حصراً، كما نصف الذات المقدسة بالكرم كصفة ذاتية تأدباً وتسامحاً، حتى لا نقول الذات ليست كريمة، وإلاّ فعل الكرم يرتبط بالمكروم حتماً وقطعاً ومن هذه الناحية تكون صفة الكرم فعلية، ولم يقل، أي: العلة حين أطلقها بالمعنى الذي شرحت فكرته أنها واردة من الشرع. فتنبهوا أيها القراء. نقلت فكرته بتعبيري.
وأخيراً، ربما متسائل يقول أليس العلل الأربع للخلق، هي أهل البيت عليهم السلام، كما تقولون، نقول: نعم، ولهذا شرحٌ، ربما نوفق لطرحه مستقبلاً كحلقة ثانية، وهذا البحث تأسيس حكمي له فقط


كتب أخرى:

علاج فكري 1-4

تأليف:
الشيخ سعيد القريشي
النوع:
مقال
اللغة:
العربية

عقيدتنا 2 العقيدة وأصول الدين

تأليف:
الشيخ سعيد القريشي
النوع:
مقال
اللغة:
العربية