نظرية الوجود في حكمة الأحسائي
الوجود هو الظاهر بنفسه المظهر لغيره . وقالوا " الوجود : يشكل العالم الذي نعيش فيه مجموعة هائلة من الأشياء والظواهر والعمليات ذات الخواص المتباينة "[1]
الإمكان و التكوين :
من تحقيقات الشيخ سعيد القريشي حفظه الله
ليس في الوجود إلاّ الخالق والمخلوق ، فليس ممتنع الوجود مفروضاً ـ خلافاً لأبن سينا[2] وصدر المتألهين[3] ـ و لا موجوداً من الأصل . والممكن ينقسم إلى قسمين : عالم الإمكان وعالم التكوين .
( الإمكان) : وهو عالم واسع يحوي كل ما سيخلقه الله سبحانه و تعالى ، والمادة الخلقية فيه ، مادة صلوحية حادثة قابلة أن تكون أي شيء ـ خلافاً لأبي بكر الرازي الذي قال بقدمها[4] ـ . وهو أوسع من عالم التكوين و محيط به .
عالم الإمكان ، الوجود الراجح ، والوجود المطلق كلها تطلق على الإمكان .
( التكوين ) : و هو عالم مقيد بالإمكان يشمل كل من ترجح وجوده على عدمه عندما تعلقت به الإشاءة التكوينية .
عالم التكوين ، الوجود المقيد ، الوجود المشروط ، الوجود المتحقق كل لها تطلق على التكوين .
دائرة الإمكان والتكوين :
بحر هائل من المواد الخلْقية غير متناهية ، لا يحدها سوى خالقها ، صالحة أن تكون أي شيء شرط أن يلقى عليها التكليف وتتعلق بها الإشاءة التكوينية ، فيترجح تكوينها على إمكانها .
في هذه المرحلة يبدأ المخلوق الدخول في ترتيبات عالم التكوين الخاصة في مراتب معينة على الشكل التالي :
1. مرحلة الفؤاد و يأخذ منه حقيقته .
2. مرحلة العقل و يأخذ منه عقله .
3. مرحلة الروح و يأخذ منه روحه .
4. مرحلة النفس و يأخذ منه نفسه .
5. مرحلة المثال و يأخذ منه مثاله
6. مرحلة الطبيعة و يأخذ منه طبيعته .
7. مرحلة المادة و يأخذ منه مادته .
8. مرحلة الأجسام و يأخذ منه جسمه .
و بهذه المرحلة يختم الممكن قوس النزول ليبدأ مرحلة جديدة تسمى قوس الصعود أو العود إلي الله سبحانه .
أقسام الموجودات :
1. الوجود الحق ، وهو وجود الله سبحانه .
2. الوجود المطلق : وهو عالم الإمكان ويسمى والوجود الراجح .
3. الوجود المقيد : وهو عالم التكوين .
هل نستطيع إدراك الوجود ؟
الإجابة على هذا السؤال تتحدد إذا حددنا نوع الوجود المدرَك ، هل هو الوجود الحق ، أم الوجود الممكن ؟
إذا كان المدَرك هو الوجود الحق ، فالإدراك ممتنع لتالي :
1. انعدام المناسبة بين المدِرك والمدَرك .
2. الممكن لا يدرك ما فوق مبدئه .
3. لزوم انقلاب الحقائق بين الأزل و الممكن .
أما إذا كان الوجود المدَرك هو الوجود الممكن ، فلا امتناع على الإدراك و لكن بشروط :
1. تساوي الممكنين في الرتبة الإمكانية .
2. عدم المانع من الإدراك .
3. وجود السنخية .
من هنا نحدد أن الشيخ يربط إدراك الوجود بطبيعة الوجود المدرَك ، فإن كان ممكناً ، يمكن إدراكه بالشروط المذكورة أعلاه، وإن كان موضوع الإدراك واجب الوجود فهو مستحيل كما ذكر آنفاَ .
وبناءً على نظرية الشيخ القائلة بالعلم الانفعالي ، نرى أن الوجود سابق الإدراك ، والوجود مستقل بصفة موضوعية عن الإدراك ، والعلم يحدث عندما ينفعل المدرِك بالوجود الممكن[5]،وقد وافق في هذا القول الفارابي[6] .
المعقولات الخمسة [7]:
أثبت في الفلسفة قبل الشيخ الأحسائي أن كل ما يعقله الذهن البشري محصوراً في خمسة أشياء يصطلح عليها ( المعقولات الخمسة ) كالتالي :
1. واجب الوجود لذاته .
2. ممتنع الوجود لذاته .
3. ممكن الوجود لذاته .
4. واجب الوجود لغيره .
5. ممتنع الوجود لغيره .
فيلسوفنا يعترف اعترافا تاماً بالأول ( واجب الوجود لذاته ) بينما يرفض الثاني رفضا تاماً واقعاً وافتراضا .. لأنه ينافي التوحيد الحقيقي لله سبحانه وتعالى ، وأما الثالث ( ممكن الوجود لذاته ) فالشيخ يعترف به و لكن يتساءل في كلمة ( لذاته ) هل تعني أن إمكانية الممكن من ذاته أم من غيره ، فإن كانت من غيره ، أي الله ، فالمفروض أن تكون الصياغة الحكميّة ( ممكن الوجود لغيره ) أي الله .
أما إن كانت إمكانية الممكن من ذاته ، أي ليست من غيره ( الله ) فكلامكم صحيح ، ولكنّه ينافي التوحيد.
أما الرابع و الخامس فكلاهما عند شيخنا صحيحان و لكن لا يصحان أن يكونا قسمين للممكن .. لأنهما من أقسام الممكن و الشيء لا يكون قسيماً لنفسه .
الوجود والماهية :
لقد قال شيخنا بأصالة الاثنين (الوجود والماهية ) مخالفاَ بذلك جل من سبقوه من الفلاسفة .
أ ـ في الجعل :
ـ أما (الوجود) فلا خلاف في مجعوليته من أحد سوى "السهروردي" .
ـ أما (الماهية) فالصراع يكمن حولها ، وشيخنا يقول بمجعوليتها وتتلخص أدلته على النحو التالي :
(أولاً) : الاتصاف بالإمكان و الشيئية والوجود والعدم متفرعة على نفس الذات المجعولة ، وهذا الاتصاف محتاج إلى الجعل كما الذات الموصوفة ، فالوصف الذي يأتي بعدها مترتب عليها ، فهو أشد احتياجاً للجعل ضرورة .
(ثانياَ) : إن الوجود الموصوف بالإمكان الذي هو علة الاحتياج إلى الجاعل كانت الماهية ضرورة عدم استغنائها عنه .
(ثالثاَ) : نسبة الوصف القائمة بين الصفة و الموصوف ، إما أن تكون خارجية أو ذهنية ، فلا بد لكلا الوجودين من الجعل .. لأنهما حادثان والحادث محتاج إلى من يحدثه .
(رابعاً) : النظرية التي تقول : بأن الشيئية والإمكانية وغيرها من المعاني المصدرية ، أمور اعتبارية ، لا واقعية لها، نظرية باطلة لما بينا من أن الصفة فرع على ثبوت الموصوف . ومن ناحية أخرى ، لو كانت كما زعموا لما ترتب عليها شيء من الأحوال والآثار ، فكيف يعقل العقل البشري اشتقاق أمور واقعية كاسم الفاعل و المفعول من أمر وهمي ، أي اعتباري ، الذي هو المصدر ، فلا نعقل قيام الواقعي على الموهوم ، ومنطق العصر الحديث يرفض ذلك .
( خامسا ) : لو كانت المعاني المصدرية أمور اعتبارية لما دعا بها الأئمة عليهم السلام كقوله : ( اللهم إني أسألك برحمتك وبمشيئتك وبعلمك وبقدرتك ) فإذا كانت وهماَ ، فهل يدعو الأئمة بالوهم ، فهذا يستدعي جهلهم بالواقعيات وذلك يستلزم ترك الأولى في مقامهم ورتبتهم .[8]
عدم اشتراك الوجود لفظاً وصورة :
يرفض الشيخ اشتراك الوجود بين الخالق و المخلوق لفظاً وصورة و عيناً و في نفس الأمر، لمنافاة ذلك أساس التوحيد ، فما التوحيد سوى نفي الاشتراك في جميع الأصعدة و المستويات النفسية و اللفظية و حتى بالإشارة التي يعيشها الإنسان من هنا أتى رفضه للنظريتين المشهورتين في كتب الفلاسفة و المتكلمين ( الوجود مشترك لفظي ) (الوجود مشترك معنوي ) و الشيخ إذ يرفضهما ، يقدم دليلاً على ذلك.
أما الاشتراك اللفظي لتالي :
1. ربما يقول البعض إن هذا البحث أدبي أخذ صبغة فلسفية فلا حاجة لإدخاله في مفهوم الشرك ، نقول : و ما التوحيد سوى كلمة ( لا إله إلاّ الله ) فاللفظ ، أي الكلام من أساسيات التوحيد .
2. حدوث بينونة العزلة بين الخالق و المخلوق و المتباينان ضدان لا يصدر أحدهما عن الآخر .. لأن كل واحد له وضع في الأساس غير وضع الأول ، فمن هنا لا تكون بينهما جهة جامعة ( مقسم ) و لا يدل أحدهم على الآخر مطلقاً ، فالعين الناظرة لا تدل على عين الذهب و لا على عين الجاسوس[9] .
إما الاشتراك المعنوي فباطل للأدلة التالية[10]
1. إن الجهة الجامعة بين الأقسام الثلاثة ، هل هي ممكنة أم قديمة ، إن كانت قديمة فيلزم و جود قديم ثان ٍ غير الواجب الذي هو أحد الأقسام الثلاثة الواقع تحت تلك الجهة الجامعة القديمة فتعدد القدماء و هذا منافي للأدلة التوحيد .
2. هل هذه الجهة الجامعة هي الأقسام و الأقسام هم الجهة الجامعة، أم هم مختلفون ، فإن كانت الجهة الجامعة هي الأقسام فكيف تكون واحد و متعدد في آن . فالشيء لا يكون قسيماً لنفسه، إما أن تكون الأقسام غير الجهة الجامعة ، فيلزم تحقق جهة جامعة خارج الأقسام فينتفي الاشتراك من الأساس .
3. لو كانت هناك جهة جامعة بين الأقسام كما يدعون يلزم التركيب مما به الاشتراك و مما به الامتياز . مثلا التركيب من الوجود و الوجوب للواجب ، و التركيب من الوجود و الإمكان للممكن و التركيب من الوجود والامتناع للممتنع . و التركيب يلزم الحدوث للواجب سبحانه وتعالى.
________________________________________
[1] الصالح ، عبد الحميد ، مبادئ الفلسفة ، ط4 ، 1996 ، جامعة دمشق ، دمشق ، ص270 .
[2] مرجع سبق ذكره ، ص 279 .
[3] الشيرازي ، صدر المتألهين ، الأسفار ، ط ، 199 ، انتشارات مصطفوي ، قم ، ص 268 .
[4] مرجع سبق ذكره ، مبادئ الفلسفة ، ص 277 .
[5] الأحسائي ، أحمد بن زين الدين ، شرح الرسالة العلمية ، ط 1 ، 19 ، مطبعة السعادة ، كرمان ، ص 8 .
[6] مرجع سبق ذكره ، مبادئ الفلسفة ، ص 276 .
[7] الحائري ، آية الميرزا موسى ، إحقاق الحق ، ط2 ، 1385-1965 م ، مطبعة النعمان ، النجف الأشرف ، ص 495-501 .
[8] راجع : أبوخمسين ، آية الله الشيخ محمد ، مفاتيح الأنوار ، ط1 ، 1376 هـ ، مطبعة الغري الحديثة ، النجف الأشرف ، ص 131 ـ 134 .
[9] مرجع سبق ذكره ، ص 39 .
[10] المرجع السابق ، ص 39 .
منقول من موقع الإحسائي